عندما بلغ «عبده» الخامسة عشرة من عمره كان قد تعرف على عدن وتنقل في أعمال مختلفة، وفي ميناء التواهي قيل له إن الإيطاليين يسجلون اليمنيين كمجندين في جيشهم، وعندما وصل إلى خيمة منصوبة للعسكريين الإيطاليين رأى لأول مرة في حياته آلة المبرقات «الطار» فوقف مندهشاً يتأملها بفرح غامر.. متابعاً نبض نقراتها الصوتية المتراتبة «طاااط طاااط .. طط .. طاااط طط». أشار إليه الضابط الإيطالي بالانصراف، لكنه رد بالإيطالية وبلكنة يمنية رافضاً المغادرة وطالباً البقاء لمشاهدة هذه العجيبة قال له perfagore . ضحك الضابط الإيطالي وتركه في حاله، وبعد حين تيقّن انه أمام عيون تلتمع بالذكاء والفراسة .. قال له: ما اسمك .. أجاب: عبده. عر ض عليه أن يكون عسكرياً ايطالياً. وافق على الفور .. قال له: ستذهب إلى «مقديشو» ..... وقال الإيطاليون لليمانيين المجندين ستذهبون إلى جنان الله في الأرض .. مقديشو مدينة جملية مُمطرة طوال العام .. يمكنكم تناول الفواكه المختلفة من على جدران منازلها .. ستحاصركم أشجار العنب في كل مكان ... خلال الرحلة البحرية ازدادت دهشة «عبده» ورفاقه، واكتملت ملامح المدينة الافتراضية بخيالاتهم الجامحة، حتى وصلوا إلى مشارفها. وصلوا في عز الظهيرة وهجير الشمس، فذابت المشاهد في حرارة الصيف القائض، وبدت الأشجار البرية المتوحشة كائنات من زمن آخر، وترافقت أكوام الرمال الساخنة مع زمهرير ونيران حامية. في المغيب كانت الأجواء تميل إلى بعد آخر، ودبت في مقديشو حالة مغايرة، وتداعت أيام الرفاق اليمانيين مع الزمان ونواميسه. «عبده» يتعلم الإيطالية كتابة وقراءة، وهو الذي خرج من اليمن أمياً لا يقرأ ولا يكتب.. تتمازج في عوالمه حالة من تثاقف الأمكنة والأزمنة، فيجمع ما كان من أيامه الأولى اليمانية. في العسكرية الإيطالية يتدرج من عامل على آلة المبرقات إلى ضابط، ويخوض على الجبهة الإثيوبية وقائع معارك الحرب العالمية الثانية بين العسكريتين البريطانية والإيطالية . يتزوج ويسكن في حارة العرب villaggio arabo .