مازلت لا أتصور أن يكون في هذه الدنيا قلوب كالتي رأيت..قد لا تكون قلوباً تلك التي رأيتها تجتث عن أجساد الآباء والأمهات جذور الصبر والحلم والتضحية لتغرس بمخالبها جذور العنف والجحود والعصيان..فماذا سيجنون بعد عمر مضى ويمضي على شوك القطيعة وجمر البطش. وحصى الطغيان؟!...على أي موجة عاتية ستقف سفنهم؟!...وفي أي بحر بلا شطآن ستغرق صرخاتهم القادمة من بئر العقوق ؟! شعرت..بالأسى يجتاح كيان أحرفي ويُلبس كلماتي ثوب عزاء عقيم حين بدأت أسطر إلى أم تنكر لها أبناؤها..اقتادوها إلى صحراء من الحرمان والحيرة عندما رحلوا شرقاً وغرباً يبحثون عن مالٍ وزوجةٍ وولد..تركوها تصارع مرارة الوحدة.. وعلقم الأمنيات المستحيلة. وجدتها أمام بيتها تطلب من يسطر بعض الكلمات إلى أولادها..وتمنت أن تحتضن وجوههم وتقبّل عيونهم،وتملأ فراغ قلبها من حبهم.. اشتاقت أن تمسح عن جبهة صغيرهم حبة العرق وهو يصول حولها ويجول يبحث عن صدى ضحكة يبعثها عن ثغره الجميل..تمنت أن تداعب شعر أوسطهم بأصابعها التي كثيراً ما احترقت أطرافها وهي تشعل النار لتعد الطعام..ذابت كلماتها وهي تتحدث عن كبيرهم الذي تخاف عليه من نسائم الربيع المرهفة..ثم توقفت شفتاها عن الذوبان في نفق الأمنيات..وأرسلت دموعها صفاً تلو الآخر وهي تحكي تعب الأيام وهمّ السنين وثقل المسؤوليات الجسام على عاتقها.. وعادت إلى الخلف سنين وارتعشت يداها وهي تجمعها لترسم على صدرها حنيناً ملوناً بالشوق إلى صغارها الذين صارت أجنحتهم كبيرة بما يكفي ليرحلوا بعيداً عن عشهم الذي جعله الوالدان حصناً منيعاً لأبنائهما. أولئك الأبناء الذين ما إن تبسم الحياة في وجوههم حتى تعود للعبوس من جديد..لأنهم تركوا خلفهم قلباً باكياً وعيناً شاكية وجسداً طواه الهم وشوّه معالمه الحزن واختزله الأسى في صورة بالية على جدارِ متصدع..لكم يحتمل هؤلاء الآباء والأمهات من ضنك العيش والفاقة والغربة واستمراء الصبر دواءً مريراً لمرضٍ ليس له دواء إلا البر.. والاعتراف بالجميل..ذكرتني بسيل الدمع الجارف ينحدر من خديها بأمطار الشتاء..قاسية في هطولها..ثم لا تنبت الثمر..! ماالجدوى من سكب أمطار الروح على أرض النسيان؟! ماالجدوى من بذر مشاعر الأمل في أرض من الرمل ؟! ما الجدوى من إشعال فتيل اللوعة داخل سجن كبير بلا قضبان.؟ أبنائي وبناتي..كل كأس يمتلئ يفرغ لا محالة..احتسوا من كأس رضا الوالدين قبل أن تفرغ الكؤوس فلا يعود يسقيكم ماء الأرض كله...وإن أتعبكم السير يوماً نحو أرض الجهاد فحطوا امتعتكم ولا تستلوا سيوفكم..فإن في رضا الوالدين جهاداً ليس له جزاء إلا جنة الله في السماء..