حمدي مراد كلما حاولت الهروب من جلبابها العتيد وبنفس الشعور يأخذني الحنين مرة ثانية إلى أحضانها فأعود إليها منكسراً بلا أجنحة.. أعود إليها وأنا خافض رأسي أنظر إلى موضع قدمي لا أقدر أن أرى وجهها المفعم بالحزن والحنين أظل صامتاً لا أعرف كيف أبدأ الحديث.. أعود إليها بخفي حنين لا أملك من حطام الدنيا شيئاً كي أهديه إلى أعز مخلوق في الوجود غير جسدي المتهالك نعم جسدي الذي يقوى دائماً على مقاومة عنفوان حنانها وحنينها وعطفها وسخائها الكبير بالابتعاد عنها لسنين لاتحصى. هاهي تنتظرني كعادتها عند عتبة الدار تستقبلني بالترحاب والفرح الذي يتلألأ من عينيها تحتضني بعنف بينما الابتسامة تزين شفتيها وتطلق لفمها عنانه ليعبر عن قدومي بزغرودة لاحدود لها وتحتفل بي كأم عاد ابنها من أرض المعركة منتصراً تقبل خدي بعدد الشهور والسنين التي غبتها فيما أظل صامتاً أيضاً لا أدري ماذا أقول؟ وكيف أكافئها على صبرها وقوة تحملها على فراقي الطويل.. ترى هل أخبرها بحقيقة إفلاسي من العاطفة والاشتياق؟ وهل تسامحني لو أخبرتها بصدق وبدون زيف أورتوش كاذب. ويح قلبي الذي لايعرف أن له حضناً يستوعب كل أحزانه وأفراحه لكنني تركته وغبت عنه بحجة واهية وهي البحث عن السعادة وراحة البال مع الزوجة والأولاد وبعيداً عن وجع الرأس ولم أكن أدري أن السعادة الحقة هي إرضاء الأم وطاعتها والجلوس عند أقدامها التي سوف تصل بي إلى رحاب الجنة. أعود إلى قريتي ومهد طفولتي بعد سنين كي أرى وجه أمي المشرق وأقبل جبينها لأجل أن تصفح عني وتسامحني بسبب جهلي وعدم قدرتي على البقاء بجانبها حتى تغدق عليّ من فيض حبها الذي لاينضب مهما بادلته القطيعة أو الجفاء أو مهما استنزفت وأسرفت من مائه فهو يظل كما هو لاينقص منه شيئاً أبداً، هذا هو قلب الأم الذي لايعرف معنى التجاهل أو النكران أو الجفاء كما نفعل نحن الأبناء بقصد أو بدون قصد حيث نقابل الإحسان بالاساءة والمعروف بنكرانه ولهفة الشوق نقابله بالتجاهل والإعراض وكأنه لايعنينا قط. آه ما أقسانا نحن الأبناء نحو آبائنا وآمهاتنا نظل ننكر فضائلهم علينا ونجحد حقوقهم ونتذمر ونغضب منهم على أتفه الأسباب ونترك الألم والحسرة تنهش أجسادهم ونحن غافلين ولاهين مع زوجاتنا وأبنائنا الصغار الذين سوف يعاملوننا ذات يوم بنفس الأسلوب والتصرف جزاء ما اقترفته أيدينا في حق جديهما فالجزاء من جنس العمل وعملنا لم يكن يرضي الله ولارسوله عليه الصلاة والسلام لأننا أهملنا عن عمد آباءنا وأمهاتنا ولم نقم بالواجب الذي كلفنا به على أكمل وجه ولم نرع لهم لامعروفاً ولاذمة ولم نحترم كبرهم في السن أو نرحم شيخوختهم وبياض شعرهم بل سعينا بكل قوة وجبروت إلى رميهم في دار العجزة والمسنين أو المصحات العقلية أو رميهم في الشارع بدون رحمة، المهم تكون المدام مرتاحة ومبسوطة من تلك الأفعال القبيحة والتي كانت على حساب الوالدين ولايهم غضبهما فذاك غير وارد في التفكير ساعة تنفيذ العملية الإجرامية في حقهما والصادر مخططها من الزوجة طبعاً وبطريقة محكمة لايخر منها المية. ها أنا أصحو من سبات جهلي على حقيقة مفادها: أن الجنة تحت أقدام الأمهات، حديث شريف وبسند صحيح روي عن سيد الخلق عليه أزكى الصلاة والتسليم فهل أنت أيها الزوج بعد هذا الحديث تترك الجنة كي ترضي زوجتك وحقدها الأعمى؟ لا أظن أنك قادر على الرد علناً لكن أقول لك دع ضميرك هو الذي يرد في السر على الأقل فذاك أضعف الإيمان.