لست أدري أي شعور بات ينتابني الآن.. أحاول أن أستذكر بعضاً مما قاله الشعراء القدامى منهم في استقبال رمضان .. فلا يحضرني إلا قول أحد العباسيين من زمرة أبي نواس: رمضان ولَّى هاتها ياساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق ليس في هذا البيت إلا تلهف هذا الملاهي لكأس الخمرة بعد فراق دام ثلاثين يوماً ،لكن وما علاقة هذا بنا ونحن ندلف غداً أو بعد غدٍ أول أيام هذا الشهر الفضيل، في مقابل السؤال عما ينبغي قوله إنصافاً لحق رمضان وقيمته الروحية وأبجديات الاغتنام لفرصه وأوقاته الإيمانية ومسابقاته النورانية التي يربح فيها من ربح ويخسر فيها من خسر..! هذا البيت فيه دلالة كامنة وملمح تاريخي عن مستوى التدني في عصر الانفتاح الرهيب والعيش الرغيد الذي طرأ على الحواضر العربية أيام بني العباس نتيجة وفادة العنصر الأجنبي وماجلبه معه - عوامل النهوض إلى جانب أسباب السقوط.. هذا النموذج «الشاعر» استطاع أن يمسك عن معصية يتعاطاها باستمرار.. وهنا تبرز مكانة رمضان عند إنسان ذلك الزمان، وما الذي كان يعنيه قدومه لديه حتى وإن كان في هذا الإنسان من يعد جبلاً من جبال الفحش أو بحراً من بحار الفساد زاخراً بالآثام وقضايا النهب العظام والإثراء من المال الحرام. نحن مذنبون لامحالة، وإن اقلع الناس عن الذنوب فهذا معناه انتهاء صلاحياتنا للاستخلاف في الأرض ليأتي الله بقوم يذنبون ويستغفرون وهذا وعد من الله. لكن، هل ندرك هذه الحقيقة ونعود إلى أنفسنا لنقيس حجم أخطائنا ونبتهل إلى الله طلباً للعفو؟!.. إذن جاء رمضان «مطهر» أهل الإسلام ليعيش الكل أياماً معدودة في صفاء السريرة ونقاء القلب، هروباً مؤقتاً من أهوال المادة وصخب الحياة واللهاث المتواصل خلف سراب النفس والهوى والشيطان.. أن تصوم نهارك يعني أن تمسك عن أشياء كثيرة لطالما أتعبتك وأرّقتك وقضّت مضجعك. فالمعدة والأمعاء تأتي فرصتها في الاسترخاء لتعيدالنظر في جاهزيتها وتجديد قدرتها ومعالجة مشكلاتها، تعود بعدها للطحن المتواصل في أحد عشر شهراً لا تكل فيها ولا تملّ ولا تهدأ ولا تفتر ، ولا أحد يتدخل بإيقافها يوماً، تقديراً لجهودها، لا إنسان ولانقابة ترعى حقوق المعدة وأخواتها من الآلات والأجهزة العاملة في الجسم البشري، لذلك فحرام أن تكافأ بموائد مكثفة وأصناف متنوعة من الأطعمة ومشروبات متعددة الألوان.. وأين كل هذا من عضلة صغيرة تملؤها اللقمة واللقمتان «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه». وكذا النفس بحاجة إلى أن تزكو والضمير بحاجة إلى صقل وإزاحة كل ذرات الهوى والأطماع العالقة فيه ليعود إليه رونقه وبهاؤه وصحوته ونشاطه. إنها فرصة كل من وقف يوماً أمام خدمة الناس وسيادة الحق ونهوض الوطن وكان عقبة كؤوداً أمام أحلام الطامحين إلى إشراقة وطننا كله بنور التنمية، وحرام إلا يراعي هذا عن الرشوة وأن يستمر ذلك في التحليل عن القانون وأن يستمرىء ذلك إثارة الأحقاد والاسترزاق مما يدعو إلى فتنة ، ومما يحتكره فيقود إلى أزمة. لارهبانية في الإسلام ،وعلم ساعة خير من عبادة سنة، وشهر رمضان ليس شهر راحة وقعود .. إنه شهر السعي في أعمال الخير وإعانة المحتاجين وإبلاغ نداءات الملهوفين وصراخاتهم واستغاثاتهم إلى أهل الخير فيتشارك الجميع في المثوبة. لنا زملاء صحفيون في مؤسستنا «الجمهورية» نغبطهم - عَلِمَ الله - حين نجدهم في رمضان يسعون ويتسارعون في نشر صوت مريض أو استغاثة هالك أو حاجة معدم ، وهو جهد رائع أحدثته وسارت على نهجه «الجمهورية» عبر ملحقها الرمضاني «ليلة القدر» فكان لها الفرادة والتميز. وكم هي طرق الخير كثيرة، والأجواء مهيأة لتزكية النفس والسمو بها عن كل ما يركسها مراراً في أوحال الهزيمة والأنانية، أما الشياطين فهم الآن في انتظار أمر الإله فيهم ، فقد ضُربت القيود، وفتحت المغارات، وفي غضون ساعات قليلة سترحل جحافلهم مكبلة بأغلالها وياليتها لن تعود!! وهي فرصة العقول أن تتدبر وتتأمل وفرصة القلوب أن ترقّ وتستيقظ. شهركم مبارك.. وكل عام وأنتم بخير.