التطواف العابر في عوالم محمود درويش النصية التعددية ذات الصلة الرأسية بالفنون يضعنا في ثقافة التلقي العربي التي تماهت معه بحق، والشاهد أن محمود درويش نال مكانة أثيرة في الذائقة الشعرية العربية المعاصرة بل إن بصماته تمددت في أقاليم الشعر العربي الحديث لتشكل حالة شاملة تمتد من الماء الى الماء. لم يكن بيان درويش سياسياً كحال مجايليه في الأرض المحتلة فحسب، بل كان أيضاً وضمناً انصرافاً مؤكداً للشعرية بمعناها الواسع، ولقد شكّل مع سميح القاسم وتوفيق زيّاد محطة خاصة في تيار الشعر العربي الحديث المركوز في أساس الشعرية التاريخية غير القابعة في مرابع الأسلاف المعروفة، بل المُتفاعلة معها تفاعلاً لا يُلغي خصوصية الشعر العربي، ولايتنطّع لتجاوز الفيوضات التلقائية التي يصل إليها الشاعر باسترخاء ورشاقة واضحتين . من هذه الزاوية يمكن القول إن درويش قدّم اجابات إبداعية على أسئلة الحداثة الشعرية، وجدل الكلام البيزنطي العربي الذي ترافق مع هذه الأسئلة ومازال يعد انتاج نفسه بكفاءة المتاهة التائهة . ينطلق محمود درويش في شعرية الإبداع الفردي من معانقة المُتلقي المتواشج مع خوارزميات الكلام، ومعنى الشعرية في النص .. والحال فإن غنائية الشعر العربي ليست لازمة مُطلقة ومغلقة قال بها الخليل ابن احمد الفراهيدي، ونظّر لها الجاحظ والجرجاني، بل إنها أيضاً تستمد الوهج الصافي المستمر من أصل اللغة وضوابطها الموسيقية الغنائية القابعة في كل حرف وكلمة . خوارزميات اللغة العربية مُعادل مطلق لموسيقى اللغة التي تتمرأى بأشكال متنوعة، فهي بيان يستمد معناه من القاموس، وهي هيئة مغروسة في موسيقى المرئي بصرياً، وهي أيضاً «رقوم» رياضية تتآلف وتتواصل .. تتفاصل وتتقاطع. ألم يكن درويش يشتغل على هذه البديهة كحال الشعراء المطبوعين ؟ الم يكن مقيماً في زمن الابداع المافرق للزمكانية التقليدية وكأن لسان حاله يعيد ماقاله الرائي: رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرق ولو لاح غربياً لحنّ إلى الغرب وإن غرامي بالبريق ولمحه وليس غرامي بالأماكن والتُرب روته الصبا عنهم حديثاً مُعنْعناً عن البث عن وجدي عن الحزن عن كرب تلك هي مثابة المُبدع وخاصة عندما يكون من نمط الراحل الاستثناء محمود درويش .