ما أشرنا إليه من أقانيم «الواحدية - الثنائية - التعددية» في الثقافة العربية وعلى قدر موضوعيتها لا تُغيّر من وجه الحقيقة السافرة شيئاً، فهذه الأُصول المتنوعة عطفاً على الحالة الجاهلية، فانتشار الإسلام، ثم الفتوحات وقيام الإمبراطورية العالمية الإسلامية ..هذه الأُصول لا تعني أنها سارت ضمن متوالية ميكانيكية، وأنها استطاعت أن تُغلّب رؤية على أُخرى، فالعرب ظلوا أوفياء للجينات الثقافية الأولى، بل وتمكنوا من تلقيح التعليم الديني «الوضعي» بهذه الجينات الاستنسابية الهوائية، وأفلحوا إلى حد كبير في تطويع ومغالبة التيارات الثقافية الثنائية والتعددية، ولسان حالهم يكرر ما قاله جدهم: وإنا أُناس لا توسُّط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر فالثنائية والتعددية تنصاعان لمنطق الواحدية غير الحميدة، لا الواحدية الحميدة التي « ترى الجمع في عين الفرق» وتعتبر أحوال الفكر والوجود صوراً مُتنوعة لحقيقة واحدة. وحتى عندما أخذوا بفكرة الثنائية والتعددية لم يخلُ الأمر من مُخاتلة مكشوفة كما نرى ذلك بوضوح في علوم الكلام التي بحثت في مقولات الجبر والخيار والظاهر والباطن، والقديم والجديد، والشريعة والحقيقة، والحكمة والشريعة، فكل هذه المقولات انبرت على سطح العقل والمعرفة بطريقة «أكروباتية» مشمولة بالتذاهن السيكولوجي، والمحاصرة الضمنية للتيارات الثقافية القادمة من الآخر «الغيري»، وهنا لابد وأن نعترف بأن بعضاً من نتاج ثقافاتنا التاريخية كان مفارقاً لهذه المفاهيم القلقة، وخاصة عند التصوف المُتروْحن الرائي، والاعتزال الكلامي المُعتد بالإنسان..تلك المفارقات لم تعكس خلافاً في الرؤى والمفاهيم فحسب، بل كانت مُجيرة على البُنى السلطانية التاريخية التي استخدمت علوم الدين لصالحها، وحاولت الاستفادة قدر الإمكان من تلك العلوم لما يخالف مقاصد الشريعة وأبعادها السمحة.