إذا انطلقنا من التدوين، نحن في مشكلة، لأن ما عُرف منه اوروبياً كان مُجيراً على الثقافة التدوينية الإغريقية وخاصة ما يتعلق بجدل الكلام، أي جدل الفكر. خاصة وأن الإغريق تميزوا بنظرة دنيوية ميتافيزيقية متنوعة ومتعددة، بل إنهم وضعوا هذه النظرة ضمن مراتبية محكمة الإغلاق ومحكمة التفاعلية بين الأعلى والأدنى، وإلى ذلك قدموا بعض المشاريع المتعلقة بالمسائل الأرضية، وكانت لهم نظرات تصوف ولهم استقراءات كلامية فلسفية. لكن هذا الأمر يعود إلى بداية التدوين ولا نستطيع أن نتحدث عن تلك البدايات، لأن مفهوم البداية مثل مفهوم المابعد، فليس هناك ما قبل وما بعد، لأن هناك آداباً وأفكاراً إنسانية لم تصل إلينا، ولكن ما زالت بعض ملامحها المدونة تدلل على أنه كان هنالك أيضاً رؤى مثل فكرة التوحيد عند إخناتون التي وصلت إلينا بطريقة متواضعة، وكتاب الموتى عند الفراعنة الذي له علاقة بمفهوم الحياة والموت وما بعد الموت والبعث وما قبل البعث، وله علاقة بنسبية الحيوات وسرمدية الموات والانتقالية إلى عالم الموات، وكانت الدور بالنسبة لهم ليست الدور التي نسكنها ونحن أحياء، بل هي تلك التي نسكنها في المقابر بعد الانتقال من الحياة الدنيوية .. أزعم أن المدونات التي وصلت إلى الإنسانية لا تمثل إلا القليل من الحقائق. ولهذا، لا بد من اللجوء إلى استنطاق الحجارة، وإلى استنطاق اللُّقى الأثرية، وإلى إمعان الذائقة لمعرفة أن لكل بداية بداية قبلها، وأن لكل نهاية مابعدها ، ولا نهاية للتاريخ. الشيء المهم هنا الإشارة إلى أن النزعة المركزية الأوروبية حاولت أن تعمل time table أو جدولة لتاريخ الفكر الإنساني، وفي هذا نوع من المخاتلة برأيي الشخصي .. ورثنا من تلك المدونات أشياء هامة، ولكن القول بمركزية المرحلة، ثم بعد ذلك تجاوز مراحل هامة كان فيها للحكم العربي الإسلامي فعل عظيم في الشؤون الثقافية والفكرية والحياتية..هذه المرحلة تُغفل عن عمد من قبل العقل المركزي الأوروبي الذين يبتغي شوفينية من نوع آخر. في المقابل عندنا مركزيتنا الخاصة، ولهذا السبب فإن الحقيقة توجد في مكان ما في منطقة وسطى بين الأقوال والتنظيرات ذات الجذر الشوفيني بالمعنى القومي أو بأي معنىً آخر.