ذلك الطفل الذي كان قبل عقود من الزمن تداعت عوالمه مع الطبيعة البكر وأنساق الثقافات وأحوال الوجود المفعم بالحنين والأنين، ففي فجر يوم بعيد من أيام الصفاء والنقاء تدافع أطفال الحارة من أعلى تلة رملية تستشرف البحار المعدنية، وتُموسق حضورها الشفّاف بغنائية الوجود وأسراب الطيور القزحية المُحلقة، وحشود الفراشات الزاهية المنسابة مع أثير الصباح الباكر، وتداخل الأصوات الباكرة للمآذن والطيور والحشرات النطّاطة . كان يوماً غامضاً كالماس، ومفعماً بعوالم للاستشراف والرؤى، حين اكتشف طفل العاديات غريبة من غرائب الدهر. حدث ذلك أثناء مُشاهدته لوحة واقعية تُرسم لتوّها والساعة، ولقد لفت انتباهه الحراك الحر للريشة، وتماوج الألوان المائية الصادحة بجمال الطبيعة، وتبلور معالم الصورة وكأنها نابعة من غيوب العدم . لم يكن الصغير يُدرك أبعاد اللامرئي، ولا فلسفة التلوين والتكوين، ولا معاني الضياء والعتمة، حتى إن ما تبقّى في ذهنه اليانع لم يتجاوز دهشة مقرونة بألحان الزمن، وشجناً داخلياً قاده إلى محاولة جنينية لرسم أول لوحة سديمية عاميّة ظل يُشخبط جدرانها طوال مساء حافل بالإصرار والضنى. سهره المطول حتى بدايات الفجر أذهل أُمه، لكنها لم تنهره، بل أبدت إشفاقاً مقروناً بدهشة موازية صامتة. نقطة الانطلاقة تلك لم تكن نابعة من خفايا المعاني والتقنيات، بل كانت قوة الدفع الذي يحيل الرتق فتقاً، ويُلملم شتات التداعيات، ويُحاصر الانطباع بمُدركات تتوالى تباعاً حتى تصل إلى تخوم الجمال اللامتناهي للظواهر المرئية، لكنها فيما تغيم مع زمن الإبداع المرئي تواصل ترحالها الجبري صوب اللامرئي البعيد، هنالك حيث تتوحّد الفنون عن عتبات البحار السحرية لطفولة الحنين والأنين. غادر الطفل مرابع أيامه الزاهية كيما يتمنْطق مشقة الدهر وعواصفه العاتية، باحثاً عن طمأنينة مُستحيلة، وقلق يصعب انتظامه، وطوبى لا وجود لها في الحياة الفانية . خلال رحلة المشقّة الطويلة إنجلت الصورة أمامه وكانت اللغة بمثابة الميزان الذي يُحاصر الرسم والصوت والدلالة، فاللغة قيمة تشكيلية مؤكدة، وأخرى صوتية لامفر منها، وثالثة تتجاوز المستويين إلى المجهول حيث لا كلام ولا مرئيات. اللغة ترميز أقصى للماهيات والموازين الكونية.. تستبطن كامل شروط الوجود المرئي واللامرئي، والعربية تلتزم هذا النهج من خلال سياقها الصرفي وميزانها النحوي، فهي لا تُكتب كما تُقرأ كحال أغلب اللغات، بل إن رسمها المكتوب يعبر عن بعض من كُل، فالصوتيات مُضمرة في العربية، فليس من الضروري أن نكتب الحركات التسعة المعروفة وهي: "فتحة وضمة وكسرة وفتحتان وضمتان وكسرتان، وسكون ومدّ وشد" .. انها لغة التعمِية والإضمار، وهذه التعميةcodification ليست مثلبة بل ميزة كبرى ترينا كيف أن المرئي في العربية يتوازى مع اللامرئي، وكيف أن مقام اللامرئي أسمى وأجل قدراً من المرئي المكتوب، وكيف أنها لغة تتجاوز البرهان الرياضي الشكلاني الى آفاق موصولة بالذائقة والغيب. نكتب بعضاً من الكلام للتدليل على كل الكلام، لأننا نكتب الكلمة دون صوتيات، لكننا نقرأ كل الكلام فنغيب في "التعمية" الابداعية الموصولة بالذاكرة والذائقة، فالكلمة تعيش انزياحاتها الدلالية المطلقة، والاشارة تقبع وراء العبارة، والاتصال غير اللفظي سمة حاسمة في ميزان الجمال والجلال للغة القرآن. الاتصال غير اللفظي اشارة لتعدد اللغات الدالة، وتعبير عن فضاءات الكلام المتنوعة، والحاصل ان كل اشارة وعبارة وايماءة تعبير يوصّل إلى الكلام سواء جاء الكلام بوصفه صوتاً أو اشارة أو ايماء أو مُلامسة.