الكثيرون من الآباء يعمدون - بقصد أو بغير قصد - إلى تغييب الدور الرئيسي لهم في حياة الزوجة والأبناء.. فالانشغال المبالغ فيه من قبل الأب يترك فرصة لخلق أجواء غير صحية نفسياً واجتماعياً لدى الأبناء والزوجات اللاتي يلجأن إلى اتباع أساليب تربوية خاطئة لمجرد حب إثبات القدرة على السيطرة داخل إطار الأسرة.. هذا الغياب غير المبرر لهؤلاء الآباء يجعل المسؤولية مضاعفة لدى الأمهات وهذا ما يؤدي بالكثير منهن إلى حبس النَفَس كسياسة تربوية أخيرة قبل إطلاق صفارة الانذار.. إن التوازن الأسري الفطري الذي خلقه الله تعالى لا يمكن أن يوجد إذا لم تتوافر أركانه الثلاثة، أبٌ يتعهد أبناءه، أمٌ تربي أبناءها، أبناء يدعمون آباءهم وأمهاتهم بالبر حتى تكتمل معادلة الطاعة لله تعالى. الأبناء الذين يعانون من الحاجة إلى صديق يشاركهم الحياة ويجتهدون في إرضاء علاقاتهم الخارجية وإشباعها على حساب علاقتهم بذويهم داخل الأسرة هم أولئك الذين لا يجدون صديقاً حميماً من داخل الأسرة يملأ الفراغ الاجتماعي الذي لا بد أن يُشبع عندنا كبشر لدينا صفة التعايش مع الآخرين والرغبة في استمرارها، وكلنا بحاجة إلى صديق كلٌ حسب جنسه لكن نسبة هذا الاحتياج تزيد كلما كان الآباء منشغلين عن لعب دور الصديق داخل المنزل، وبالتالي توفر الكثير منهم في الخارج على اختلاف اتجاهاتهم وأخلاقياتهم وتقبل المجتمع لهم كأفراد سلبيين أو إيجابيين فيه. وقد تحاول الأم كثيراً فرض الاحترام والسيطرة الغائبين للأب لكنها غالباً ما تفقد إحدى جهتي المعادلة.. حنانها ورعايتها والدور المتقمص للأب الذي غالباً مايأخذ شكل الحزم والسيطرة. في كثير من الحالات وخاصةً في سن المراهقة يرفض الأبناء- لاشعورياً- هذه السيطرة المشحونة بالخوف وذلك الحزم المؤطر بالحنان فهم يعتقدون أنهم قد أصبحوا كباراً بما يكفي لتسيير أمور حياتهم, ووجود الآباء إلى جوار أبنائهم لايرسم صورة جميلة لعائلة سعيدة فقط بل يعمل على إيجاد الاستقرار النفسي للأبناء والأمهات ويرسم مرجعية شرعية يحصل عليها الأبناء كلما كانوا بحاجة إليها، وهذا يؤدي إلى ظهور سلوك نفسي واجتماعي جيد وعلاقات اجتماعية وأسرية ناجحة وبالتالي فلا علاقات سيئة مع أشخاص سلبيين أخلاقياً يقع فيها أبناؤنا.. وما منا من أحد إلا وفي بيته مراهق يخشى عليه من ذلك النوع من الأقران الذين عانوا هم أيضاً مشاكل أسرية سيئة. أيها الآباء.. مهما كان نوع العمل الذي تزاولونه فلن يكون أكثر متعة من صلاح أبنائكم.. وأياً كان حجم المال الذي تدرُّه عليكم أعمالكم فلن يكون أثمن من أبنائكم.. لن تصدقوا ذلك الشعور الذي يتملك مشاعر الأبناء عندما يرون آباءهم وأمهاتهم على صعيد تربوي واحد, لاتعرضوا أبنائكم لذلك الانطواء والعزلة والإحساس بالنقص بينما تنصرفون للبناء خلف الأسوار. نعم .. فالبناء الحقيقي هو بناء الأبناء والحصاد الحلو هو حصاد نجاحهم الأكيد في الحياة.. وإذا أردتم أن يكون لكم أبناء يبرُّونكم فعليكم أن تبرُّوهم اليوم بحسن التربية والاستماع إليهم ومحاولة إشراكهم في إدراك الأوضاع وصنع القرار ومن ثم التوازن في الشخصية وهذا مطلب نفسي لا مفر من الوصول إليه هروباً من سلسلة طويلة من الأمراض الاجتماعية التي يكون سببها بسيطاً في نظر الآباء إنما له وزنه في نظر الأبناء. وإذا تأملنا حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) أسرياً سنجد أن انشغاله بالدعوة ومعاركه التي خاضها ضد المشركين بالله والكثير من الأمور الدنيا التي كان لابد أن يعلمنا إياها لم تشغله عن القيام بالدور الحقيقي له كأب داخل الأسرة والدليل علاقته مع بناته وأحفاده ، حيث جادت لنا السيرة النبوية بكثير من مواقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) في التربية والصبر على الأبناء الصغار. ولعل المثل الشعبي(إذا كبر ابنك خاويه) ناطق رسمي باسم الوجود الأبوي الذي يجب أن يتذوق الأبناء حلاوته خلال تلك المرحلة الهامة من حياتهم والتي تتبلور فيها شخصياتهم وفق مايستقونه من أساليب تربوية. وإذاً فإن المسألة لاتعدو عن كونها مناخاً مناسباً لغرس الشخصية الجيدة على تربة خصبة من المبادئ والقيم الهامة والتي يستقيها الأبناء من آبائهم ومجتمعهم وطبائعهم الموروثة سلفاً والمحكومة بقالبهم الإنساني. وعلى الأمهات أن يكن جادات في ترك فرصة الظهور الأبوي على مرآة الأسرة حيث تجهل بعض الأمهات خطورة وضع الأبناء على مفترق طرق عندما يتجاهلن الإصغاء إلى أزواجهن فيما يخص مصلحة الأبناء أو نسف شخصية الأب أمام الأبناء وقد يكون العكس موجوداً أيضاً، إذ يلجأ الكثير من الأزواج إلى تهميش رأي الأم التربوي داخل الأسرة وإظهارها أمام أبنائها مرأة غير صالحة للتربية. وهذا النوع من الازدواجية في التربية مرفوض قطعاً لأنه يحوّل أحد الزوجين أمام الأبناء من مصدر موثوق تربوياً إلى مجرد أداة فاشلة في الاستخدام. ومن هنا ينشأ لدى الأبناء حالة النفور وحب الاستقلال عن الأسرة.. إذاً فلماذا لانحاول أن نجمع شتات أنفسنا ونبدأ من جديد؟!