لعلّي كأم أشعر كثيراً بمعاناة الأمهات اللاتي لا يجدن في أبنائهن قِبلة للبر ومأوى للحنان ووجهة للطاعة لأن أقسى ما يمكن أن تمر به الأمهات ويلقاه الآباء ذلك النكران للبذل والجحود لعناء السنين ونسيان الأيام اليتيمة من الراحة والليالي الخالية من ترف الأحلام على وسائد النوم اللذيذ.. نعم أيام ليست كأيام البشر تلك التي ينطرح فيها أبناؤنا على فراش المرض.. ساعات ليست من العمر تلك التي نراهم فيها يعانون ويلات المرض ونحن لا نملك إلا أن نمدهم بجرع الدواء المر أملاً في عودة العافية إليهم حتى إذا مرت الأيام كمرّ السحاب على كتف السماء وكبر الأبناء والبنات وتضاعفت على كاهل الوالدين اعتى المسئوليات علا صوت الجحود وبدأت نبرة العقوق في الظهور وحال بين الوالدين وبين نعيم الطاعة ذلك ال “أف” النافرة ببروزٍ خبيث خارج جسد الإحسان. نعم هذا بالضبط ما يشكوه الآباء والأمهات اليوم، موجة العقوق الطاغية التي انتشرت كمرضٍ خبيث قلمّا يسلم منه أهل البيت فما هي الأسباب التي تجعل من فلذة الأكباد أوراماً خبيثة نتمنى أن يستأصلها الموت بصمت لننعم بالأمان؟! في زيارة لإحدى النساء اللاتي عانين ذلك الجبروت من أبناء الروح سكان الأحشاء المظلمة وقاطنو كؤوس الرحمات وجدت ما بعث في نفسي الشعور بالأسى والقحط وللحظة تصورت أن يكون أبنائي بمثل هذا الجحود فخارت قواي ولم أعد أستطع التعبير عن ما رأيت وسمعت لكني آثرت أن أكتب هذه المصاحبة لعبودية الرحمن:{وقضى ربك ألا تعبدوا ألا إياه وبالوالدين إحساناً} صدق الله العظيم. وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم قرن الرحمن طاعته بالإحسان للوالدين لأن في طاعتهما اعترافاً بوحدانيته وعجيب قدرته وعمق رعايته وفضله ورحمته وما تشاؤون أكثر من دقة خلق الرحمن وعلو شأنه.. إن هذه الظاهرة الأكثر انتشاراً والأشد تفاقماً إنما تنبئ عن حالة سائدة من اللا توازن في ميزان العلاقات الأسرية ولا يخفى عليكم أن استمرار الوضع على ماهو عليه سيزيد المجتمع تفككاً أكثر مما هو عليه الآن.. إن الأسس التربوية التي نركز باستمرار على وجوب إرسائها كقواعد هامة للنشء يجب أن تنطوي على مفاهيم إنسانية قوية كرموز للوجود البشري بل ومن الضروري تصويرها كمسلسل يومي على شاشة المجتمع وإدراج الأحكام التشريعية خلالها حتى تتضح الصورة الكاملة لهذا الجيل الذي لم يعد قادراً على الرؤية بسبب ذلك الكم الهائل من الشوائب السابحة بحرية هنا وهناك، وكان قوامها وازع ديني ضعيف وضمير إنساني غافل ومجتمع يصفّق لما يثير غرائزه المكبوتة وليس شرطاً أن تكون الغرائز جسدية بل إنني أعني بقوة الغرائز الفكرية التي تحول دول الفهم الصحيح لحركة المحيط الذي نحن أفراد فيه، لكم أن تتخيلوا ذلك الصباح الأخرق الذي استيقظت فيه السيدة “ن” على وقع أقدامه تدوس الأرض بقوة حولها ليحمل كل ما له علاقة بها من ثياب وأدوات وأشياء تعنيها في الحياة ثم يجعل الشارع مأوى لها بعد أن قرأ على مسامعها قرار بيع منزلها الصغير الذي لا ينفع حتى أن يكون اصطبلاً للحمير! لكنه منزلها الذي آواها من شر الناس والطبيعة وحماها من هجير الصيف وزمهرير الشتاء ومن منا لا يحب منزله حتى وإن كان عشاً معلّقاً على شجرة خريف لا تحمل إلا أغصاناً جافة حين أسكتتها الدهشة وأخرس لسانها الظلم سقطت على الأرض في شبه عجز حتى عن النظر لم يكن ذلك الرجل مالك البيت ولم يكن المشهد في قطاع غزة أو المخيمات كان هنا في إحدى ضواحي مدينتنا، مدينة الأحلام الوردية الباسقة بقلعتها الشامخة بجبلها.. البسيطة ببوابتي موسى والكبير.. لكن الكبير هو الله.. لقد كان ذلك الرجل هو ابن المرأة البسيطة التي باعت حيواناتها الأليفة وبقايا قطع أثرية من الذهب لتزوجه بامرأة من نساء هذا الزمن الصعب.. امرأة ما كانت تدري سيدتي العجوز أنها سترد الجميل رأساً على عقب.. فبدلاً من الزفة التي رقصت فيها العجوز فرحاً بها أبدلتها زفة وداع قذرة بالتفاهم مع الزوج الذي هو ابن البطن وفرحة القلب ووريث الحزن والسهر والدموع، نعم اخرج والدته إلى رصيف القصور والحور.. مالك المباني والدور.. الله الذي يرث الأرض ومن عليها ولم يبق على الرصيف عارياً من الرحمن إلا ذلك الابن العاق.. كم من الأمهات مثل تلك السيدة قد لا يسعفهن الموت كدواء من همّ الدنيا وكمدها يعانين طويلاً من هذا الموج العاتي الذي تنكر للخالق والمخلوق وكأنه ما جاء إلى الدنيا إلا بمحض الصدفة هكذا قذفه موج أو أمطرته سحابة أو حملته الريح، وكأنه لم يدس بقدميه على بطنها وهي تعلمه الوقوف بخوف، ولم يتقيأ على صدرها وهي تطعمه السكينة ولم يسهد عينيها وهي تحرس روحه أن يموت لأجل ذلك نشدّد على ضرورة غرس مفاهيم دينية عميقة عبر مناهجنا ومساجدنا وإعلامنا الذي تتزايد أعداد قنواته يومياً لكن دون أن يكون هناك تركيز على البناء الصحيح لشخصية أطفال المجتمع وشبابه. إذ من واجب الإعلام اليوم أن يكون له الحضور الكافي والعميق بين الناس كونه وسيلة الاتصال والتواصل الوحيدة الشائعة على مستوى المتعلم وغير المتعلم على حدٍ سواء.. لذا نقول: يجب أن يكون للإعلام استراتيجية موجهة وتكون له بطاقة شخصية يستطيع من خلالها التعريف بنفسه ليصل إلى حد التأثير في الآخرين أما أن يبقى إعلامنا مجرد مواد مدبلجة أو منقولة كاملة الدسم أو منزوعة الدسم من كل غث وسمين فهذا لا يجدي نفعاً مع مجتمع يحاول المواكبة ويشكو المطاطية في مبادئه ولو أنه يضطلع بدوره كما ينبغي لأصبح المجتمع اليوم خالياً من العيوب ولأصبحت أيام الأمهات كلها أعياداً. في نظري لا جدوى من عيد يأتي في كل عام مرة.. وأيام العام كلها حسرات تمضي لا يتجرع مرّها إلا نساء هذا الوطن اللاتي يضعن من أحزانهن متكأً للفرح.