حين سافرت ابنتي عفراء إلى كندا قالت لي بابا الرجل هنا يحتاج للمحرم أكثر من المرأة؟ سألتها لم أفهم؟ قالت: الفتاة هنا لا يخشى عليها بقدر الشاب، الذي يجب أن يحصن فيزوج؛ حتى لا ينزلق مع الكاسيات العاريات؟ وفي العادة فإن الخوف في المجتمعات الدينية المغلقة يخشى فيها على الأولاد من الفاحشة أكثر من النساء؛ فالمرأة تحمل سفاحاً أما اليافع فلا. وحين استعرض الأحاديث الواردة عن اشتراط المحرم للمرأة أقول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم متساهلاً في بيئة انعدم فيها الأمن وكثر اللصوص واشتدت وطأة قطاع الطرق، أن يقول نبي الرحمة إنه لا تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر امرأة مسافة يوم وليلة بدون محرم. ولنتصور ظروف تلك الأيام بدون مطارات غاصة برجال الأمن، أو طرقات معبدة محروسة بدوريات الشرطة. لقد ورد في الحديث حين سأل الصحابة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أنهم يعرضون للعذاب والشدة؛ فقال لهم: إنه كان فيمن كان قبلهم يؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، ليختتم عباراته أنهم قوم يستعجلون، ولئن طالت بهم الأيام فسوف يرون عجباً من تغير الأحوال وتطور الأمور، فلسوف تسير الظعينة وهي راكبة هودج الجمل من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها وطبعا بدون محرم؟ ولكنكم قوم تستعجلون؟؟ وهذا يفتح السؤال على قضية هامة في الإصلاح الديني عن علاقة النصوص بالواقع، والتحريم مع الضرر، والتحليل مع الفائدة. وفي القرآن نص جميل أن الأنبياء يأتون الأقوام فيحلوا لهم الطيبات ويحرمون عليهم الخبائث.. وهذا ما وصل إليه أيضا الفقه الإسلامي قديما في أصوله، حين قال عن الحرام إنه ما كان كله ضارا أو معظمه، وأن الحلال ما كان نافعا كله أو معظمه.. و منه فإن القرآن حين حرم الخمر فلأنه في معظمه ضار، ولذا قال «ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس». وأذكر جيداً الممرضة الألمانية ريتا ونحن نستقبل حوادث الطرق أثناء تخصصي هناك، وقوافل المخمورين تأتي وتفحص؟ كانت تقول محمد معه حق (Mohamed hat ) كنت أعقب إنه حكم الله وليس حكم شخص.. و نحن في الطب نعقم الجلد باليود ثم الكحول قبل شقه، كما أننا نستخدم الكحول كعلاج موضعي لما فيه من فائدة قتل الجراثيم وتبريد المنطقة قبل شقها. وحين يتم بتر الطرف السفلي يلجأ بعض الجراحين بعد قطع الطرف وعصب النسا إلى حقن نهاية العصب بالكحول. وهذا يقول إن الأشياء تحرم ليس لذاتها بل لأثرها الضار، ويعتبر هدفيلد عالم النفس، والفيلسوف أرسطو، أن الانفعالات في الجسم هي في أصلها اندفاعات صحيحة كل ما في الأمر أنها جاءت في غير مكانها الطبيبعي. بل إن القرآن وضع نوعاً من الحركة بين مصالح متضاربة، بسبب تعقيد مظاهر الحياة، ومن هذا الحقل نبت علم كامل هو أصول الفقه، وهو علم عقلاني مستقل يعلو فوق النصوص، فهو يرى حين تضارب المنافع والمضار أن دفع المضار مقدم على طلب المنافع، وأن اجتماع ضررين لابد من أحدهما، يجعلنا نتحمل الأخف والأصغر هرباً من الأكبر والأشد والأعتى. وكذلك فإن تضارب المحظورات مع الضرورات يجعلنا نتغاضى عن المخطورات مقابل النجاة بالضرورة، ومنه أباح القرآن أكل لحم الخنزير إذا كانت الحياة مهددة، فأعطاها الأولية قبل كل شيء. وكذلك استخدام الكحول إذا تمت الحاجة له مع أنه نجس، وأكل لحم الخنزير بل لحم الميت في حالة المجاعة كما حدث ذلك في فيلم على قيد الحياة، حين انحجزت طائرة هوت بركابها في جبال الإنديز في البيرو مدة 72 يوما فما أباقاهم هو أكل لحم الجثث؟؟ وخرج ابن رشد بالقاعدة الفقهية الرائعة في حركية النص مع الحكمة؛ فأطلق عنواناً على كتابه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال). ليقول إن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً. وهذا يوصلنا إلى القول أن المسافة ليست هي السبب ولا الجغرافيا في المحرم، فالمرأة اليوم تسافر من الشرق الأوسط إلى كندا بأمان الله، ولكنها في ضيعة في أفغانستان وباكستان قد تتعرض للاغتصاب وهي في العالم الإسلامي، وكمية الأمن في مونتريال في كندا، تجعل البيوت مفتوحة والحدائق بأسوار بسيطة بهجة للناظرين ومتعة للساكنين، أما عندنا فالنوافذ ضيقة كأنها للقلاع والبنوك، والأسوار عالية كأنها خنادق حربية، كله بسبب مركزية مشكلة المرأة والحرص على مصادرتها فتتحول إلى سلع للرجل. لقد حاول الفقهاء قديماً أن يبنوا بيوتاً ففتحوها من المركز للسماء وجعلوا أسوارها الخارجية عالية، أما أبنية اليوم فليست غربية ولا شرقية بل مسخاً وتشويهاً وإعاقة وتعتيماً.. ألا إن تصحيح شكل المجتمع يأتي من النظرة الإنسانية للمرأة والطفل وحين لا ننصت لروح النصوص نكذب على الله، «ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام»..