هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض؟ هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب ب (الخبث) في تصرفاتها كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم؟ هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحوّل المدمر؟ وهل هناك أجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة؟ هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية مثل الأبحاث البيولوجية فطورت المعالجة الاجتماعية؟ وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة؟ وهل هناك بالأصل (موت اجتماعي) فتموت الأمة كما يموت أي فرد؟ دخل علي الزميل نادر وقد استشاط غضباً على واقعة اقتصادية مدمرة تحدث بين الحين والآخر وفي أكثر من بلد، عن رجل خدع الناس فجمع أموالهم وغرّر بهم تحت سراب الربح الوفير فيأتيهم رزقهم رغداً بالعشي والإبكار وهم مستلقون على ظهورهم! وهكذا قام (الساحر) بالمعجزة الاقتصادية وأراح العباد من همِّ المستقبل واستثمار الأموال، فهرع الناس إليه زرافات ووحداناً، يضعون بين يدي الساحر تعب العمر وشقاء الليالي، وتراكمت الأموال والآمال، حتى انقشع السراب الخادع فانهارت المؤسسة المالية وأفلس صاحبها وطارت الأموال إلى الأرصدة الخارجية، وتبخّرت أموال الناس بين يدي (الدجال) الاقتصادي، فأصبحت كالصريم وأخذوا يقلبون أيديهم في ظل الكارثة وهم يتأملون سمك القرش الاجتماعي الجديد، بين اقتصاد مدمر، وثقة تخلخلت بين الناس، وأسعار للعقارات ارتفعت بشكل وهمي بأعلى من قمم الغمام، وجمود في حركة المبايعات. ولا غرابة لما حدث لأن الحمق لوحده ليس له علاج، فكيف إذا انضاف إليه الطمع، وقديماً سأل الجاحظ غلاماً فقال له ياغلام: أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمق؟ قال لاوالله ياعماه. قال له الجاحظ : ويلك يا غلام ولِمَ ؟ قال ياعماه: أُضيِّع الدنانير وأبقى أحمق !! هذا المرض الاجتماعي ليس اليتيم الذي يحدث، بمحاولة الفرد (الانتهازي) أن يتضخم فيتورم و (يتسرطن) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي فيتحول إلى (مجموعة القوارض الاجتماعية) التي تقضم الشبكة الاجتماعية، أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية. ياترى كيف يمكن تصنيف هذا المرض ضمن قائمة (أمراض اجتماعية) لاتحصى ؟ فكما يصاب الفرد بالمرض سواء العضوي أو النفسي فإن الجماعات لها أمراضها (النوعية) الخاصة بها فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة سواء الزكام أو السل وانتهاءً بالسرطان. كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية، فالجعبة مليئة وليس المثل السابق إلا واحداً من الكثير من أمثال (عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور) و (كراهية النظام والانضباط) و (السطحية في معالجة الأمور) و (عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان) و (نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ) و (النطق بلا مسؤولية) و (عدم احترام الآخرين) و(التسيب الوظيفي) و (واللافعالية) و (البيروقرطية غير المنتجة) و (عدم تقدير الوقت) و (ضعف الذوق الجمالي) و (غياب الروح العملية) و (انطفاء روح المبادرة) و (عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام). وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي يأتي في قمتها (الرشوة) و(المحسوبية) و (الوساطة) واختصرها القرآن بالثلاثي: الشفاعة التي تقابل الوساطة (ولايقبل منها شفاعة) والعدل مقابل الرشوة (ولايؤخذ منها عدل)، والمحسوبية مقابل (لاتجزي نفس عن نفس شيئاً)، ويمكن القول باختصار: تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون، لأن الوجودين متزاحمان في الوعاء الاجتماعي، والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات. ويظن أولئك (المغامرون) أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم (شطار) ويعرفون كيف (تؤكل الكتف) ولكن السرطان حينما ينمو ، فأول مايفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة، فيكون مثله كمثل القرد سيئ الذكر في قصة كليلة ودمنة حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه. وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لايشعر، حين يدمر مصادر وجوده، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم. هناك (قانون اجتماعي) يربط بين العلاقات الشخصية وشبكة العلاقات الاجتماعية ، وأي زحزحة من قطب لآخر يعطي الفكرة عن مدى تماسك المجتمع وقوته من ضعفه ، وفكرة (المركزية) و (اللامركزية) التي طورتها المجتمعات الغربية هي ثمرة نضج تلك المجتمعات، كذلك تربط علاقة صارمة بين فكرتي (الحقوق) و(الواجبات) فالواجب هو (حق) من جانب وهو (واجب) من الوجه الآخر، تماماً مثل وجهي العملة. لنتأمل هذه الفكرة المهمة. إن أية (معاملة) هي واجب للموظف يؤديها في الوقت التي هي حق لمن يستفيد منها، وتنعكس الأدوار، فنفس الموظف يرى من حقه أن يعالج بشكل جيد أثناء مراجعة المستشفى، في الوقت الذي يعتبر هذا واجباً للطبيب يؤديه، وهكذا تصبح (العملة الاجتماعية) تدور بين (حق - واجب) في كافة شرايين الخدمة الاجتماعية، ويجب ألّا تزور هذه العملة، فيجب أن يقوم الطبيب بعمله في غير تذمر وملل، كي يتحرك الموظف بنشاط وهمة لتسيير المعاملة وترك طاولته في نهاية الدوام نظيفة، وكي يؤدي الشرطي مراقبته للمرور بدون محاباة، وهكذا يتم تبادل هذه العملة في مرافق الحياة. وحسب قواعد الاقتصاد يعتبر المجتمع معه (فائضاً في العملة) إذا نظرنا إلى العملة الاجتماعية المذكورة سلفاً أو أنه غني أو أنه في حالة بحبوحة حضارية عندما يتم تحصيل (فائض في الواجبات). إذاً نحن أمام ثلاث معادلات اجتماعية في الواقع : الأولى هي تلك التي تقول بفائض الواجبات عن الحقوق، وهي تشي بالتالي بحقيقة مجتمع متفوق حضارياً، الثانية بتساوي الحقوق والواجبات وهي تعطي فكرة عن مجتمع متوازن، أما عندما تتفوق حركة المطالبة بالحقوق في المجتمع عن تأدية الواجبات اليومية، فإن المجتمع يبدأ في الانهيار. ويترتب على القانون الذي ذكرناه قانون اجتماعي آخر في غاية الأهمية وهو : عدم المطالبة بالحقوق أو بكلمة أدق تعميق اتجاه القيام بالواجب ، لأن المجتمع الذي تعلم ان يقوم بواجباته سوف تنشق السماء وتعطيه حقوقه، فالحقوق لاتؤخذ ولاتعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب. يقول المفكر السعودي الدكتور محمود محمد سفر في كتابه (ثغرة في الطريق المسدود): (لقد فقدنا الوعي الصحيح بدورنا كأفراد وجماعات في عمليات التنمية وأصبحنا جميعاً من (أصحاب الحقوق) وماأدراك ما (أصحاب الحقوق)؟ إنها سمة التخلف في جيلنا، حيث أصبحنا لانعرف إلا حقوقنا على حكومتنا، وجهلنا تماماً واجباتنا، وتكونت هنا وهناك في عالمنا الإسلامي جمعيات وهيئات للمطالبة بالحقوق. حقوق المرأة وحقوق العمال وغيرهم، وقد آن لنا أن تتكون بيننا (هيئات للقيام بالواجبات) التي أغفلتها أو عجزت عنها الإدارات الحكومية. إن سيكولوجية مدمرة تتكون عندما يعيش الإنسان في أجواء المطالبة بالحقوق واللهث وراءها. إن التنمية في مجتمع ما تبدأ مسيرتها عندما ينسى أفراد هذا المجتمع حقوقهم ويذكروا واجباتهم. إن الأمة تحتاج في ساعات (الإنقاذ التنموي) إلى النفر القدوة الذين لايسألون أين الرزق الوفير وإنما يسألون أين الواجب الكبير. وفي غياب الدور الحضاري للمال يمكن أن يصبح الثراء مدمراً، فعندما تصبح وسائل الثراء سريعة ورخيصة يبدأ المجتمع في الانصراف عن التنمية الحقة حيث يصبح كل هم أفراد المجتمع أن يغترفوا من نهر طالوت ولاينتظروا ويصبروا أمام مشاكل التنمية)