يحتدم الجدل الخلاق وغير الخلاق في آن واحد هذه الأيام، وذلك عطفاً على قراءة الثابت والمتغير في سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه إسرائيل، ويزداد الأمر سخونة مع إدارة اوباما التي كثيراً ما لوّحت بخطابات غنائية، ووعوداً براقة، ليس على مستوى الشرق الأوسط فحسب، بل أيضاً على مستوى العديد من الملفات الثقيلة، سواء في الداخل الأمريكي، أو على المستوى العالمي. وخلال الفترة الممتدة ما بين خطابات وأحاديث اوباما الواعدة، وما جرى عملياً على الأرض يُمكن رصد مؤشر رئيسي يحدد طبيعة التناقض بين الأقوال والأفعال، وخاصة على المستوى الدولي، ويدخل في هذا الباب الأمر المركزي في المنطقة العربية والمتعلق بإسرائيل . قبل أن نلج إلى قراءة الجديد في الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل، ولمزيد من استقراء البُعد التناقضي السافر في سياسات الإدارة الجديدة، لا بأس من التطواف العابر حول بعض العناوين والملفات الرئيسية على مستوى الداخل الأمريكي، وفي العالم أيضاً، وسنختار هنا الأبرز وعلى النحو التالي: الأزمة المالية الدولية التي نبعت من ثلاثي البورصة الدولية في “ وول ستريت “ ، وسياسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي .. مُضافاً إلى كل ذلك اتفاقية التجارة والتعرفة الجمركية المعروفة باسم “ الجات “ والتي ترعاها الولاياتالمتحدة، وتعتبرها قُدس أقداس المبادلات التجارية الدولية، والمترابطة حصراً مع مرئيات الصندوق والبنك الدوليين .. تلك الأزمة التي فاضت بأقسى النتائج على الاقتصاد الأمريكي فيما يُعرف بمحنة الرهون العقارية التريليونية. في هذا الباب لم تتحرك إدارة اوباما بأي إجراء جذري يعيد النظر في هذا النظام المالي المُغامر، بل عملت على ترميمه بجرعات مالية إضافية ستزيد الأمر فداحة .. خاصة إذا عرفنا أن منظومات الإصدارات النقدية الجديدة لتغطية خسائر البنوك وشركات التمويل والتنفيذ تعزز في نهاية المطاف نظام “ برتن وودس “ النقدي الذي كان سبباً مباشرا فيما آلت إليه الأحوال الاقتصادية الدولية . قامت إدارة اوباما بتمرير قانون إصلاح الخدمات الطبية، وبدت في هذا الأفق مُنحازة لملايين الأمريكيين المكشوفين صحياً، غير أن هذا التشريع لم يتعزز بإجراءات إصلاحية اجتماعية تتعلق بالمهاجرين العالقين وعددهم ملايين من البشر، كما لم يتم تغيير النظام الضريبي جذرياً، ولم تتحقق وعود اوباما القائلة بالتغيير، ولم يتم إعادة النظر في الآليات المالية الخاصة بالحكومات الفدرالية والتي سنّها اليمين الجمهوري على عهد بوش الابن، الأمر الذي أصاب ملايين الناخبين المتحمسين لأوباما وإدارته بخيبة أمل بالغة كشفت عنها الاستفتاءات الأخيرة . على مستوى الشرق الأوسط الكبير لم تتغير السياسة الأمريكية من حيث الجوهر، ففي العراق تحدثت الإدارة عن جدولة الانسحاب، غير أن المراقبين العسكريين يقولون بأن هذا الانسحاب يوازي شكل من أشكال إعادة الانتشار المُحتسِب لجولة قادمة .. ربما ضد إيران هذه المرة، وبالتالي تتدثر سياسات المبادآة الإستراتيجية الكبرى بثوب مخملي مخاتل، وتبدوا الصورة ذاتها مع تغيير الألوان، ويتأكّدُ ما ذهب إليه المراقبون إذا لاحظنا أن فكرة الانسحاب الملغوم بفتنة الداخل العراقي وإعادة الانتشار، تساوقت مع تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، وتبني تجدد العمل العسكري، بما يذكرنا بخواتم حرب فيتنام التي دمرت فيتنام ولاوس وكمبوديا وخرجت منها مُجللة بالعار والشنار . وعلى خط “ الحرب العالمية ضد الإرهاب “ واصلت إدارة اوباما، بل أمعنت في تعميم نموذجها الخاسر في أكثر من بلد صديق، فقد رأينا أن تلك البروفة حضرت بسخاء في باكستانوأفغانستان والصومال، وبقدر محدود في اليمن الذي أتوقع أن يتخلّى سريعاً عن استعارة بروفة محاربة الإرهاب بالقاذفات والصواريخ والطائرات.. تلك البروفة التي أثبتت إنها خائبة ومُعيبة. وفي منطقة “ أوراسيا “ الممتدة من قلب أوروبا، وحتى تخوم روسيا لم تغير إدارة اوباما إستراتيجية اليمين الأمريكي الناظر لروسيا وفق نموذج الاتحاد السوفيتي السابق، ومناهج الحرب الباردة، مما تجلّى في كثير من المحطات السياسية التي لا يتسع المجال هنا لإيرادها. إذا تمعنّا ملياً في النقاط الخمسة سالفة الذكر يمكننا استنتاج الثابت والمتغير في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل مًلخصة فيما يلي : الثابت هو التأييد والدعم الشاملين لإسرائيل ، والقبول بسلوكها حتى وإن أحرجت الولاياتالمتحدة على المستوى الدولي، والشاهد تلك الصفعة المتعمدة التي وجهتها إسرائيل عند زيارة نائب الرئيس الأمريكي “ بايدن “ إليها، والتي تمثّلت في إعلان بناء المزيد من المستوطنات وهو في حالة زيارة واعدة بحلحلة الأمور. بايدن المصفوع هو ذاته الذي دافع عن العمل الإجرامي الإسرائيلي ضد سفينة الخير والسلام التركية التمسك بالانفراد بالحل، وتغييب اللجنة الرباعية وتوصياتها المتعددة القائلة بإيقاف الاستيطان والقبول بحل الدولتين وفق المرجعيات التي اعتمدها الباحثون عن الحل بالحوار، ناهيك عن ركل المبادرة العربية واعتبارها كأن لم تكن . الاستعداد التام لتعطيل أي قرار دولي جديد يستهدف اليمين الإسرائيلي العنجهي المتطرف . بمقابل هذه الثوابت التي لم تتغير، يجري في الداخل الأمريكي جدل بناء، وتساؤلات حائرة، بل بوح فاقع من قبل بعض السياسيين والمراقبين والنُخب، والذين يشيرون بالبنان لإسرائيل، ويتهمونها بأنها أصبحت تمثل ضرراً بالغاً على الولاياتالمتحدة .. غير أن هذه الأصوات ، وتلك المقاربات مازالت في طور الاختمار، ولم تتبلور في الجهاز المفاهيمي السياسي الأمريكي بوصفها إشارات خضراء لصالح الولاياتالمتحدة.