قالت لي ابنتي من كندا التي قفزت بالزمن خمسة قرون للأمام، وهي تقرأ أحزاني ومعاناتي: « قبل أيام قرأت لامرأة أمريكية تقول إن المعاناة تحدث عندما يرفض العقل خطط الله, هنا يتصرف الله، وهنا يقرر العقل أن هذا غير منطقي, وهنا يخسر العقل, قالت المرأة: لأن الحقيقة هي الله, لماذا؟ قالت لأن الحقيقة هي الغالبة والقاهرة، ومن نحن حتى نتجادل مع الحقيقة. ولكن قالت ما يمكن أن نفعله هو أن نحب اللحظة، أن نرى هذا الكون بحقيقته... أنه بديع ورائع وجميل، وأن الغشاوة في العقل الإنساني هي التي تفصله عن رؤية هذه العظمة... ثم قالت إذا كانت الحياة بهذا الجمال، فلماذا لن يكون الموت أجمل. لماذا نعمل قرارات لا نعرف لها أصلا ثم نعاني عاطفياً من أمر لسنا حتى متأكدين منه... أثرّ علي كلامها كثيرا... إن الإنسان فعلا يعيش في غاشية، وكأن الخروج منها يكون بالتسليم، ومعرفة الفصل بين ما يمكن أن نقوم به، وما يجب أن نسلم له كلياً... سلامي وحبي ودعائي لك بالطمأنينة، فالحياة زائلة، وليلى سابقة ونحن اللاحقون. وهي لحظات قليلة أمامنا جميعاً مهما طالت، وكلنا يعود إلى الله، ولكن المهم أن نحقق النفس المطمئنة التي ترجع إلى الله راضية مرضية. وهو الذي جلبنا إلى هذا العالم بدون علم لنا، ولم يستشرنا عندما خلق قوانينه، وهو يتصرف، ويدبر الأمر وكل يوم هو في شأن، طفل يولد، شخص يموت، وآخر يمرض، وآخر ينجو من حادث فظيع ونحن علينا التسليم، وإلا فالمعاناة تماماً كقصة موسى مع الخضر. نحن مثل موسى لا نفهم ما يحدث، ولكن في النهاية كأن هناك قدراً معيناً يتفتح مثل رواية مدروسة (في كتاب من قبل أن نبرأها لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)، فأرجو من الله أن يزيدنا كلنا طمأنينة وسكينة وخشوعاً، وأن يرفع الحزن والخوف عنا فنعيش في انشراح ومكاشفة ووضوح، وأن تكون لنا القدرة على تقبل ما كتب الله لنا. ثم ذكرت لي خبراً وشعراً عن ابن تيمية منقولة من تلميذه ابن قيم الجوزية فقالت: وقبل أيام بدأت في محاولة قراءة مدارج السالكين لابن القيم الجوزية، ومررت على قسم في نهاية الجزء الأول أثرّ علي كثيراً. وأحببت أن أجعلها هدية صغيرة لك، كان ينقل عن أستاذه ابن تيمية مقطعاً جميلاً، رائعاً، منيراً للقلب وجالباً للطمأنينة والتسليم جعلني أشعر أننا كلنا سنتفاعل معه جميعاً، فكلنا مرّ بتجارب كثيرة... يقول ابن القيم الجوزية: «كان يقول كثيراً (يعني ابن تيمية) ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء.... وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدّد إسلامي كل وقت. وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً. وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه. وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه: أنا الفقير إلى ربِّ البريات أنا المسكين في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتينا من عنده يأتي لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرات وليس لي من دونه مولى يدبرني ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي إلا بإذن من الرحمن خالقنا إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات ولست أملك شيئاً دونه أبداً ولا شريك أنا في بعض ذرات ولا ظهير له، كي نستعين به كما يكون لأرباب الولايات والفقر لي وصف ذات، لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي وهذه الحال حال الخلق أجمهم وكلهم عنده عبد له آتي فمن بغى مطلباً من غير خالقه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي والحمد لله ملء الكون أجمعه ما كان منه، وما من بعد قد يأتي