هل ياترى أن الجينات بُرمجت بحيث إنها تحقق انقساماً خلوياً محدوداً يقف بعد عدد معين؟ ثم كيف يعمل الاستقلاب في الجسم؟ فبدننا ينمو وينهدم في اللحظة الواحدة، وتموت الملايين من الخلايا مع كل ثانية، ولكن الجسم يقوم بعملية الترميم التي لايخطؤها، إلا أن محصلة عملية الهدم البناء تمشي مع الزمن ضد الجسم بحيث تسلمنا هذه العملية في النهاية إلى يد الموت.. إن الجدلية في هذا الحقل هي أن الكشف العلمي عن أمر يقود ليس إلى تقلص المجهول بل زيادته وبشكل تسارعي، فنحن عرفنا في مرحلة أن الدم سائل متجانس أحمر اللون يمشي في العروق، دون أن نتبين لماذا كان الدم أحمرَ؟ بل لماذا كان الحليب أبيضَ والسائل المراري ذهبياٍ والبول أصفرَ والغائط بني اللون؟ ثم اكتشفنا أنه يحوي كائنات محددة هي الكريات الحمر والبيض والصفيحات الدموية، وحتى الكريات البيضاء فصائل وأنواع. ثم اكتشفنا أن الكرية الحمراء التي تشبه رغيف الخبز، تقوم برحلة في مسارات البدن تبلغ 1500 دورة يومياً ولمدة أربعة أشهر تقطع فيها مايشبه رحلة ماجلان في دوران الكرة الأرضية، ويتخرب يومياً 240 مليار كرية؛ ليتجدد بدلاً عنها نفس الرقم، بل وقد تصعد الطاقة الانتاجية الى 7 8 أضعاف في الأزمات ثم اكتشفنا أن تركيب الكرية الحمراء يشبه الخرسانات المسلحة؛ فالهيموغلوبين (البناء البروتيني الداخلي) مسلح بذرة حديد؟! ثم اكتشفنا أن الدم يقوم على توازن دقيق بين التخثر والتميع في آليات رهيبة لحفظ توازن الجسم، ضمن مجموعة ضخمة من آليات التوازن، كما في التوازن القلوي الحامضي، والتوازن السكري والهورموني والمعدني والحروري والمائي و(التصنيع والاستهلاك).. وعند دراسة العوامل التي تؤثر في تخثر الدم تلاحقت الاكتشافات وتم إماطة اللثام عن عوامل تجاوزت العشرة عدداً، وهكذا فمع كل دخول إلى مستوى جديد نرى أن الفضاء يتسع بشكل لايخطر على قلب بشر، فمع كل حركة اكتشاف نكتشف جهلنا بدون حدود، وإن كنا نزداد علما، فهذه هي جدلية الوجود والقانون المسيطر..تحت ضغط هذه الأفكار سطر جراح الأوعية المشهور (الكسيس كاريل) تأملاته في كتابه (الانسان ذلك المجهول): (هناك تفاوت عجيب بين علوم الجماد وعلوم الحياة, فعلوم الفلك والميكانيكا والطبيعة تقوم على آراء يمكن التعبير عنها بسداد وفصاحة باللغة الحسابية، بيد أن موقف علوم الحياة يختلف عن ذلك كل الاختلاف حتى ليبدو كأن أولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك الأشجار أو أنهم في قلب دغل سحري لاتكف أشجاره التي لاعدد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها، فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق التي يستطيعون أن يصفوها ولكنهم يعجزون عن تعريفها أو تحديدها في معادلات جبرية). وإذا أمكن شق الطريق في العلوم المادية من خلال نموذج (فرانسيس بيكون وديكارت) للسيطرة على الطبيعة، فإن البيولوجيا تمثل تحدياً بالغاً، في حين يمثل علم النفس قفزة نوعية وبعداً جديداً.. يقول كاريل (وبتعلمنا سر تركيب المادة وخواصها استطعنا الظفر بالسيادة تقريباً على كل شيء موجود على ظهر البسيطة فيما عدا انفسنا). وعندما يمضي كاريل لوضع تعريف عن الانسان فإنه يقول (الانسان الحقيقي لايزيد عن كونه رسما بيانيا يتكون من رسوم بيانية أخرى أنشأتها فنون كل علم فهو في الوقت نفسه (الجثة) التي شرحها البيولوجيون و(الشعور) الذي لاحظه علماء النفس وكبار معلمي الحياة الروحية، و(الشخصية) التي أظهرها التأمل الباطني لكل انسان أنها كامنة في أعماق ذاته، وهو أي الانسان (المواد الكيمياوية) التي تؤلف الانسجة وأخلاط أجسامنا وهو تلك (الجمهرة المدهشة من الخلايا والعصارات المغذية التي درس الفيزيولوجيون قوانينها العضوية) ويصل كاريل في النهاية إلى تقرير هذه الواقعة: (وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهوداً جبارا لكي يعرف نفسه ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان فإننا نستطيع أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا، أننا لانفهم الانسان ككل .. إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة).