أسوأ سؤال يمكن أن تسمعه من إنسان هذه الأيام هو: من أين أنت؟ وإن جاء في بعض الأحيان من غير قصد أو سوء نية, لكني أعترف بأني صرت أكره هذا السؤال كثيراً وأرفض الإجابة عنه.. هذا السؤال لم يعد ببراءته التي كانت ولم يعد باباً للتقارب مثلما كان من قبل .. كان بداية كلام يقود نحو الألفة والمحبة ولم يكن الجواب عنه يعني شيئاً للسائل والمسئول على حد سواء ,ولم يكن أكثر الناس في هذا البلد يهمهم هذا السؤال أو الإجابة عنه ,لكني أدرك جيداً أن ثمة ثقافة قذرة تنسل من بوابته في الوقت الراهن وتدخل في تفاصيل يراد لها أن تظهر وتصبح عنواناً لصراع وخلافات تبدأ من هذا السؤال ولا تنتهي عند حدود الإجابة عنه.. هناك جهود حثيثة وكبيرة تمهد الطرقات والسبل أمام هذا السؤال وترصفها بالحقد والكراهية والمناطقية. أحدهم بدأ الحديث معي بعد أن جلست إلى جواره في (التاكسي) وطلبت منه إيصالي إلى مقر العمل بذلك السؤال الأرعن .. لم أكن مطلعاً على نواياه من وراء السؤال, ولكن لموقفي المسبق من السؤال تجاهلت كلامه وكأني لم أسمع.. مشى قليلاً فأعاد عليّ ما قاله من قبل واستمر تجاهلي لسؤاله واستطعت إقناعه بصمتي أنني لم اسمع وكنت حينها ألعن السؤال وألعن الظروف التي حولته إلى فاتحة كل كلام مع من لايعرفك, وألعن كل جهد وأصحابه الذين يريدون لهذا لسؤال أن يكون عنواناً للقناعات والمواقف وكل مايبنى عليه من قصص وحكايات. أصر الرجل على أن ينتزع جواباً مني بتكرار السؤال كلما بدا له أن الأمر مناسب لذلك , وكان يستغل لحظات الهدوء التي يحس بها في الشارع ليسأل: (ماقلتَليش من أين أنت؟) بعد إلحاحه الكبير سألته: بماذا يهمك أن تعرف من أين أنا؟ وأضفت: أنا وأنت من هذا البلد الذي نعيش فيه.. حينها أراد أن يبرر سؤاله بأن لي شبيهاً في منطقته التي تشبه منطقتنا, وهو ما بدا له من خلال الكلام الذي دار بيننا, غير أني لم أحدد له مايريد, لكنه أكمل الفراغ من تلقاء نفسه مدعياً الفراسة والخبرة ومع كل ذلك لم يكن جوابه صحيحاً فقلت له: أنا من قرية تكره هذا السؤال وتكره أصحابه وتكره الوقت الذي شهد فيه هذا السؤال رواجاً كبيراً, يوم أن كان هو السؤال الأهم والأول في كثير من المواقف والتحقيقات .. أنا من قرية تكره أن يعود هذا السؤال إلى مقدمة كل حديث بين الناس لأن سكان قريتنا والقرى المماثلة لها والتي عاشت نفس ظروفها في زمن (البراميل) و(الجبهات) تدرك جيداً قبح هذا السؤال وكل سؤال يصب في قالبه المقيت وقبح كل من يبني مواقفه وقناعاته وتعامله على جواب السؤال من هذا النوع. ظل الرجل صامتاً يهز رأسه مستغرباً من جوابي ليقول لي في الأخير مجاملاً: كلامك صحيح بس.. قاطعته وقلت: دع مابعد (بس) لك, أما أنا فيكفيني ماقبلها ,ويكفي هذا البلد كوارث بسبب مابعد (بس) وغادرت التاكسي وأنا أعوذ بالله من كلام سيأتي بعد (بس) ومن شياطين تزرع التفاصيل وتشحن الحياة العامة بسخونة السؤال وتفتح أبواباً للشر كانت مغلقة وكان الناس قد تجاوزوا الكراهية بالمحبة والوئام ونسوا الحقد بتجاوز أسبابه ومعرفة أن ماكان سائداً من وعي وثقافة تزرع الأحقاد وتحددها وفقاً للجغرافيا والتاريخ يتنافى مع القيم الإنسانية والدينية التي تقارب ولا تباعد ولاتبنى على أساس من هذه التي يبني عليها الشيطان ليفرق بين الناس ويعمم المساوىء على كل شيء ويفرح بها.