يحيى الرباط أنا ابن الظلّ، خرجت من أطراف البلاد لا بصفةٍ رسمية، ولا بقرار جمهوري .. بل بحقيبةٍ من التعب وأسئلةٍ لم أجد لها مقرًّا. ولدتُ في قريةٍ صغيرة، كان سقف الحلم فيها أن تنجو من جحيم الصيف، وأن لا تموت من الجوع قبل الغروب. كنت أركض خلف الحياة، لا لأسبق أحدًا، بل كي لا أداس. كل الأبواب كانت تُغلق في وجهي بلطفٍ ساخر، كأنهم يقولون لي: "مكانك محفوظ، خارج المعادلة". غادرتُ البلاد، لا هاربًا من وطن، بل من وطنٍ هرب من نفسه. تهريبًا عبرتُ، وفي كل مرة كنت أظنني أخرج من ضيقٍ إلى سعة، فإذا بي أكتشف أن العبودية لا تحتاج إلى سلاسل، بل إلى جواز سفر. حين عدت، عدت وفي صدري رغبة واحدة: أن أُسهم بكلمة، أن أصرخ بصوت لا يحتاج إذنًا للبث، لكنني اصطدمت بمؤسسات تُقدّس الوجوه وتكره العقول، وتتحدث عن الحرية، وهي تمشي على عكاز الوصاية. كتبت .. كتبت كمن يكتب وصيته وهو حيّ، كمن يُسجّل شهادته في زمنٍ أُعدّت فيه كل الكواليس مسبقًا. لكن الكلمة عندهم لا تُقرأ إن لم تكن تحت علم، ولا تُحترم إن لم تُقايض بولاء. كنت أظن أن الصدق باب، فاكتشفت أنه تهمة. وأن الحياد خيانة، وأن التفكير جريمة أكبر من السرقة. دخلت ساحات الإعلام، لا متسولًا ولا بوقًا، بل باحثًا عن مكان يشبه لغتي، يشبه نبرة الألم في صوتي، لكنهم أرادوني صورة، غلافًا، صدىً يُعاد بثه، لا نغمةً فريدة. أقصوني بهدوء .. لا طردًا مباشرًا، بل دفنًا في التجاهل. يُقال لي: اصبر، سيأتي دورك، لكن الدور لا يأتي إلا لمن يبيع صوته على طبقِ مديحٍ دسم. أنا رجلٌ بسيط، يشبه المزارعين حين يزرعون الحنطة في أرضٍ مفخخة بالخذلان. لا أريد جائزة، ولا ميكروفونًا يلمع، أريد فقط أن أقول الحقيقة دون أن أُتهم بالتمرّد. كل ما أملكه الآن: قلمٌ لا يُصرف له راتب، ووجعٌ لا يُعترف به في نشرات الأخبار. أكتب، لأن الصمت صار طعنة، وأحلم، لأن الحلم آخر ما لم تصادروه بعد. من حائط الكاتب على الفيسبوك