حتى قبل ثلاثة أعوام كان الشأن القضائي ومطالب استقلالية القضاء كل ما يشغل الحياة الديمقراطية في اليمن، حتى أن رئيس الجمهورية أخلى نفسه من رئاسة مجلس القضاء الأعلى.. اليوم أصبح كل ما يشغل دعاة الديمقراطية هو دعوة السلطة إلى ضرب استقلالية القضاء بعرض الحائط، وفرض توجيهاتها السياسية لإسقاط تهم جنائية عن متهمين بجرائم قتل وتقطع وتخريب ونهب وسلب، وبينهم أيضاً متهمون بالتحريض على إيذاء وطرد كل من يقول إنه «يمني»!! مازالت ذاكرتي تحفظ وجه «عبدالودود» الذي أغراه صديقه بترك «مقبنة» تعز للعمل في مدينة الضالع.. فساعدته أمه وزوجته بقطع ذهبية كفلت له عمل فرشة زاخرة بالمعدات الكهربائية انتعشت إثرها أحوال المعيشة.. قبل عام تقريباً شاهدت «عبدالودود» بأم عيني وهو مغطى بالدماء بعد أن انهالت عليه عناصر من الحراك ضرباً ب «الصميل» وركلاً وهشموا بضاعته عن بكرة أبيها.. وكنت من بين من أسعف «عبدالودود» إلى مستشفى النصر بالضالع. عبدالودود تعافى بعد مدة، والتقيته مؤخراً في تعز وقص عليّ كيف أنه كان يتردد على مقرات الأحزاب بحثاً عمن يناصره ويضغط على الجهات الرسمية لتعويضه، لكن توسلاته ودموعه لم تشفع له.. غير ان الله سخر له من يوصله إلى أحد أفراد أسرة هائل سعيد فقدموا له مساعدة ليبدأ بها حياته المهنية. ربما «عبدالودود» والمئات أمثاله ظلوا يجهلون لماذا لم تناصرهم الأحزاب ومنظماتها، لكنهم عندما سيسمعون أن هذه الأحزاب كانت أمس الأربعاء تعتصم أمام مبنى محافظة عدن للمطالبة بالإفراج عن عناصر الحراك التخريبية سيعلمون بكل تأكيد أن هذه الجهات هي نفسها التي تحمي من أدموهم وهشموا بضائعهم أو أحرقوا محلاتهم على خلفية عنصرية مناطقية حاقدة.. وسيعلمون أيضاً أن هؤلاء هم أنفسهم الذين طافوا الشوارع بالأمس يهتفون للاستقلالية القضائية فيما اليوم يطالبون بضرب سلطة القضاء عرض الحائط وإطلاق المجرمين بتوجيهات حزبية.. وهم أنفسهم من يطلقون على من أراقوا دماء عبدالودود والمئات غيره لقب “مناضلين” ويعتبرون تهشيم رأس عبدالودود بالهراوات «نضالاً سلمياً». عبر سنوات طويلة لم نسمع أن أحزاب المعارضة نظمت اعتصاماًَ لمناصرة مظلوم من أولئك الكادحين الذين يتسلط عليهم المتنفذون، أو ممن لاتجد أسرهم من يعيلها بغيابهم أو سواهم من المنتهكة حقوقهم.. ولم نسمع عن اعتصام لتعويض المتضررين من جرائم الحراك وهم بالآلاف، لكننا لا يمر شهر إلا ونسمع المشترك يطالب بالإفراج عن عناصر الحراك دون سواهم وكأن الله خلقه لأجلهم فقط، أو كأن الحراك هم ناخبوه الذين أدخلوا مرشحيه للبرلمان..وفي ضوء هذه المواقف المتكررة يتجلى لنا أن هذه الأحزاب فقدت خياراتها الديمقراطية التي تحمي وجودها، وتؤمن لها أسباب تعزيز نفوذها في ساحة العمل السياسي، لذلك لم يعد أمامها غير التسول السياسي بملفات المجرمين أمام أبواب السجون، أملاً في أن يعيد هؤلاء القابعون خلف القضبان العنف إلى الشوارع، والتخريب والفوضى والهتافات الداعية لتمزيق الوطن، لتستأنف خطاباتها الثورية، وتستجدي منها ظهوراً على بعض الواجهات الإعلامية تضلل من خلاله الرأي لعام بأن في اليمن «انتفاضة» و “رفض مليوني” و “ثورة شعبية” وغيرها من الشعارات التي توحي بها للخارج بأنها باتت قاب قوسين أو أدنى من كرسي الحكم. إن محاولة هذه القوى استجداء مجدها من مخلفات المخربين وجثث الأبرياء المذبوحين على الهوية، يلخص حقيقة الأزمة الديمقراطية في اليمن بأنها أزمة أخلاق عمل سياسي وطني.. لذلك فإن معاناة اليمنيين تتواصل، والفساد يستمر بجرائمه والمشاكل تتفاقم، لأن هذه الملايين من أبناء اليمن لا تجد من يدافع عن حقوقها، ويعري أوكار الفساد بالوثائق وليس بالشتم واللعن، ولا تجد نصيراً للمظلومين، لكنها على العكس تجد معارضة كل شغلها الشاغل الدفاع عن القتلة والمخربين من عناصر الحراك وتمارس شتى الضغوط لإسقاط ثقافة القانون وإحلال الحزبية وصياً على القضاء، خلافاً لكل المعارضات في العالم.