استهوتني ذات حكاية وأرقتني فكراً مُذ قرأتها في فزّة صباي.. فتى جميلٌ يافعٌ فارسٌ يُبعث برسالة إلى قومٍ يدينون بالولاء لمُرسلها “الملك”، ولطول الطريق ووعورتها يُصيب الفتى نصب السفر، وينال منه التعب, فتسوقه الأقدار ليحل ضيفاً لدى رجُلٍ كريم لهُ بنات، ألفين في الفتى صفات من تحلم به كل فتاة بعلاً لها، فجعلن يتهافتن على خدمته وراحته, وما فتئن يتهامسن عنه ويتغامزن ولكن على غفلةٍ من أبيهن.. وحين أخذ الفتى يحكي قصته لوالدهن والرسالة, التي همّ بإيصالها على عاتقه، كنّ يسترقن السمع خلسةً ويتلصصن من وراء حجاب وانتابتهن رغبة فضول عارمة لمعرفة ما بتلك الرسالة, وما سبب أهميتها, فتركنهُ حتى خلد إلى سُباته وفتحنها، وكانت المفاجأة التي أدركنها في الرسالة أن بها حتف الفتى. أشفقن على حاله, إذ أدركن المكيدة التي دبرها له الملك, ولفرط حيرتهن حيال الأمر, اضطررن إلى البحث عن طريقة ينقذن بها الفتى واستثنين أن يعرف الأمر, فأمانته وأخلاقه وولاؤه يستحيل وذلك. لقد كنّ كفقير وجد جوهرةً بجانب قصر الأمير فخاف أن يتركها خشية إملاقهِ وفقره وخشي أن يأخذها خشية الأمير. استثنين تغيير الرسالة فهي موشومة بختم الملك، وبعد تفكير مستفيض اهتدين إلى أن يُضِفن حرفاً إلى كلمات الرسالة غيّر مضمونها تماماً وكُتِبَ بهِ «عمرٌ جديد» للفتى !. ذلك الحرف الذي صنع قدراً جديداً للفتى هو نفسه الذي يحلم به ويتمناه وينتظرهُ الكثير من البشر بيد أنهم لا يُدركون ذلك..ربما لبؤسهم، وربما لعدم قناعتهم ورضاهم أو لفضاعة المصير, الذي ينتظرهم فالحياة تُشبه أن يحمل المرء رسالة ومصيره مرهون بساعتئذ يوصلها، فلكم من السهل أن نحيا بيد أن الصعب النجاة بما عشناه، لأجل ذلك شغلني أمر تلك الحكاية وأمر ذلك الحرف تحديداً ما حدا بي إلى نعتهِ بالحرف المصير. هذا الحرف “ المصير” قد يُصبح بمعطى العصر ومتغيراته “ كلمة” وربّ كلمة تهبك نعمة وربّ كلمة تسلبك نعمة، وربّ كلمة ترقى بك إلى عليين، وربّ كلمة تهوي بك سبعين خريفاً. أحياناً أخرى أتخيل هذا الحرف “المصير” أكثر اتساعاً ويأخذ امتداداته الطبيعية, التي يقتضيها العصر ومزاجه فتتخذ شكل المقالة أو القصة أو الرواية أو القصيدة، تكتبها فتنحى بأوجاعك وأحزانك وكدرك وضيق حالك وبؤسك إلى حيث أرحب وأرغد إما آنياً أو دانياً، فقد تحظى بها على مركزٍ وظيفي أو اجتماعي مرموق، كما قد تخصك السماء برزقٍ واسع فتثرى وتنعُم وترفل في رغدٍ من العيش كنت عنه بمنأى، وقد تكون سبباً في هلاكك ودمار حياتك، وإن كنت من ذوي الحظ العظيم كانت صكاً تفوز به عند ربك،ذلك الكتاب الذي ألفتهُ هو نفسه الحرف المصير الذي جعل “يوسف” على خزائن الأرض، وهو أيضاً ما ألبثهُ من قبل ذلك في السجن بضع سنين..!!، وهو نفسه من أخرج ذا النون من الظلمات وهو أيضاً ما أدخله فيها.!؟؟..كما أتخيل ذلك الحرف يأخذ شكلاً آخر فيكون في صورة “امرأة”، نعم امرأة تتعثر بها كما يتعثر نادلٌ متدرب في حفلةٍ ملكية، فتنفخ في قلبك الذي يفقس فيه الذباب بيضه لشدة غربتك ودناءة حظك.. تنفخ فيه من لهب روحها فينتعش وتبعث فيك، مثلما يبعث الأسى الأسى, ومثلما يبعث الحزن الحزن، «الحياة» فيطفح قلبك بنعمة الحب والمحبة وتعود روحك تغني وتنأى بأوجاعك وضيق حالك إلى فسحة من العيش, وتباركك السماء فتنفتح لك أبواب الرزق، أو ربما تهبط بك من جنّةٍ كنت فيها إلى حيث لا يطيبُ لك المُقام. هذا الحرف أيضاً قد يتخذ شكل طفلٍ تُرزق بهَ فيملأ عليك فضاءاتك المتخمة بالحياة وآلامها ومتطلباتها, فيحمل اسمك ويُعلي شأنك, ويُكتب لك بهِ عمرٌ جديد، يدعو لك بعد موتك فلا ينقطع عملك، أو لعله يكون سبباً في هلاكك..!. كلنا وما من أحدٍ إلا ويحلم بهذا الحرف المصير, بل ويحلم بإدراك ماهيتهِ إن خيراً أو شراً، ولأجل ذلك كان علم الغيب من اختصاص خالق الخلق، وجميعنا ينتظر ذلك الحرف وقد يتأخر ولذلك كان الصبر صفة الأخيار, وقد لا يأتي, ولذلك فالشاكر والحامد في الجنة.. لكني أثق تماماً بأن ثمة حرفاً مصيراً واحداً, حقٌ علينا جميعاً وبه يكون قمة التغيير, ألا وهو الموت.