المجتمع يصنع الفرد إنساناً فيقفز به من المعادلة البيولوجية إلى المعادلة الاجتماعية, يخرج به من كائن اللحم إلى كائن الفهم, يمنحه جينات اللون والشكل، ويحقنه باللغة والثقافة, فيخرجه كائناً مبرمجاً ذا بعد ثقافي ومنظومة من القيم. فأثر المجتمع على الفرد ساحق ماحق, قد يقود إلى بناء نظام عقلي مفتوح, وقد يصنعه على شكل نظام مغلق يزداد مع الوقت صلابة وانكماشاً. ويلعب الفرد الدور الإيجابي في المجتمع ولكن بصورة هامشية إلا أنه هامش ذو تأثير يشبه أثر الهورمونات في الجسم، فهي تؤثر بمقادير زهيدة للغاية، وبهذا كان أثر الأفراد مصيرياً في رسم قدر المجتمع وحركته وتطوره. فهو ومن خلال أفراد محدودين يقوم بأمرين خطرين للغاية: الأول إضافة كمية, والثاني تحقيق انقلاب نوعي من خلال كم محدد من التراكم الكمي. ويتوقف مصير المجتمع على حفنة من هؤلاء العباقرة المبدعين الذين يؤثرون العزلة في إحدى مراحل تشكّلهم لينفتحوا بعدها على الجماهير كما أشار إلى ذلك المؤرخ توينبي تحت قانون الاعتزال والعودة. ويفرق في هذه النقطة بالذات الفيلسوف محمد إقبال بين الوعي النبوي عن إلهامات الصوفية وتجليات الفلسفة، ففي الوقت الذي يغرق المتصوف في معراج الروح، والفيلسوف في تجليات العقل، فإن النبي يهمه العودة بعد رحلة الاعتزال إلى المجتمع كي ينفضه من خموله التاريخي، ويسير به نحو بناء الحضارة الإنسانية. ولعل نموذج الاعتزال والعودة يعطينا قانوناً يتكرر في مستويات شتى، خاضها عدد من القديسين والمصلحين الاجتماعيين والعباقرة والفلاسفة والشعراء والعسكريين المبرزين وقادة الشعوب السياسيين. ولم يكن إصرار بوذا تحت شجرة التين على فك لغز الهدوء الروحي, وسجن هتلر المديد يعكف على أطروحته السياسية كفاحي, وسجن غاندي الطويل أو مانديلا, أو اعتكاف ابن خلدون الشهير في قلعة بني عريف الذي لولاه لما حظينا بكتابه الأعجوبة المقدمة, لولا هذا الاعتكاف والاعتزال لم يكن ليحصل التجلّي الاجتماعي. ولقد عقب الفيلسوف إقبال بقول الصوفي عبدالقدوس الجنجوهي صعد محمد صلّى الله عليه وسلّم النبي العربي إلى السموات العلى ثم رجع إلى الأرض, قسماً بربي لو أني بلغت هذا المقام لما عدت أبداً. فالصوفي لا يريد العودة من مقام الشهود, وحتى حين يعود فإن رجعته لا تعني الشيء الكثير بالنسبة للبشر بصفة عامة. أما رجعة النبي فهي رجعة مبدعة, إذ يعود ليشق طريقه في موكب الزمان ابتغاء التحكم في ضبط قوى التاريخ وتوجيهها على نحو ينشىء به عالماً جديداً من المثل العليا.