عندما يرسي رجل الدولة أخلاقيات ومواقف تبنى على المبادىء فهو بالقدر الذي ينتصر لمصلحة آخرين يؤسس لمواقف مبدئية للآخرين تنتصر له.. الخليفة الوليد بن عبدالملك كان قد عزم على أن يخلع أخاه سليمان من ولاية العهد، وأن يعهد إلى ولده، فأطاعه كثيرون من الأشراف طوعاً وكرهاً، فامتنع عمر بن عبدالعزيز وقال: “لسليمان في أعناقنا بيعة” ثم لاحقاً ودون أن يعرف عمر كان الخليفة سليمان بن عبدالملك قد وضع قبل وفاته ترتيبات لانتقال الخلافة إلى عمر بن عبدالعزيز عبر بيعة مختومة داخل كتاب حتى يفرض أمراً واقعاً على من كانوا يرون أنفسهم أحق بها من عمر. ومع ذلك جسّد عمر موقفاً غير معهود بعد وفاة الخليفة سليمان حيث خطب قائلاً: “أيها الناس.. إني قد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه ولا طلب له ولا مشورة من المسلمين، وإني خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم خليفة ترضونه”. وإضافة إلى أن ذلك الموقف دليل زهده في السلطة, فهو يضع أسساً للانتقال السلمي والديمقراطي للسلطة ومعايير تعتمد الديمقراطية والحرية والشفافية, هو افترض أن تكون هناك علنية في الإجراءات بحيث يعلم الناس بذلك, كأنه أراد أو تمنّى أن تكون هناك صحافة حرة يقرأ من خلالها الناس ماذا يدور, صحافة تتحدث عن مرض سليمان وسيناريوهات انتقال السلطة والخلافة, صحافة تقول للناس: عمر بن عبدالعزيز ويزيد بن عبدالملك ونجل الخليفة سليمان أبرز المرشحين. كان عمر يريد أن تتاح له فرصة أن يعلن مبكراً انسحابه من السباق أو على الأقل الدخول في منافسة متكافئة مع يزيد أو غيره.. أراد ألا تكون سيرته العطرة وثقة وصلاحيات سلفه هي المبرر الوحيد لانتقال السلطة إليه بقرار من القيادة العليا دون أن يكون هناك رأي وكلمة للشعب, وأوضح ذلك عندما أشار إلى أن البيعة له جاءت دون “مشورة من المسلمين”. وبالتالي فهو انتقل من شرعية التوريث الأموي إلى شرعية الانتخاب المباشر من الشعب.. عرض التنحي والقبول بأن يصبح الخليفة المخلوع من الناس, فكان أن منحوه شرعية أصواتهم عندما صاحوا صيحة واحدة: “قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك, فول أمرنا باليُمن والبركة”. ثم شرع الخليفة عمر عملية الإصلاحات في الدولة الإسلامية من أعلى هرم النظام الأموي, حيث أوقف عطايا أمراء بني أمية وصادر ممتلكاتهم وأعادها إلى بيت مال المسلمين. وحتى يفرق الناس بين عمر المتدين الزاهد وعمر رجل الدولة فهو لم يفعل ما تعتقده بعض الحركات الإسلامية اليوم وبالذات المتشددة التي لو وليت الحكومة ربما تعهد إلى علماء الدين وخطباء المساجد الأكثر تفقهاً بتولي المناصب دون مراعاة الكفاءات والمهارات الإدارية والسياسية والعسكرية والأمنية, فهو وفقاً للمصادر التاريخية كان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا يلي عنده منصباً إلا من رجحت كفته كفاءة وعلماً وإيماناً، فكان فيهم العالم الفقيه، والسياسي البارع، والقائد الفاتح، والإداري العظيم. والشيء الأهم في نظرته إلى أن الزهد والتقشف كمسلك شخصي قد لا يستقيم مع قواعد إيجاد نظام ودولة لا يكون فيها ربط الأحزمة بقسوة طريقاً إلى الفساد.. ولذلك فهو إذا كان قد أخذ نفسه بالشدة والحياة الخشنة، فإنه لم يلزم بها ولاته، بل وسّع عليهم في العطاء، وفرض لهم رواتب جيدة تحميهم من الرشوة ومن الانشغال بطلب الرزق، وتصرفهم عن الانشغال بأحوال المسلمين، كما منعهم من الاشتغال بالتجارة (وهذا مبدأ عمري سبق كل التشريعات الدستورية الحديثة التي جميعها لا تجيز الجمع بين المنصب الحكومي والاشتغال بالتجارة) وأعطى لهم الحرية في إدارة شئون ولاتهم؛ فلا يشاورونه إلا في الأمور العظيمة, وهذا هو العمل المؤسسي الذي لا يحصر كل شيء بيد الرجل الأول. ولذلك عندما يذكر التاريخ أن خلافة عمر بن عبدالعزيز اشتهرت بأنها الفترة التي عمّ العدل والرخاء في أرجاء البلاد الإسلامية حتى إن الرجل كان ليخرج الزكاة من أمواله فيبحث عن الفقراء فلا يجد من هو في حاجة إليها. ينبغي إدراك أنه ما كان يمكن الوصول إلى ذلك دون بناء دولة أساسها العدل والإنصاف واختيار الكفاءات, ونظام سياسي انتقل من الملكية الوراثية إلى الملكية الدستورية القائمة على الديمقراطية والحكم المحلي ونموذج حكم جمع أفضل ما في التجارب الاشتراكية والرأسمالية, وزاوج بين صون الملكية الخاصة وحق الفرد في إطار حماية الملكية العامة وحقوق المجتمع ككل. [email protected]