أسهم الاختلال السياسي بمنظومات الحكم العربية وما نجم عنه من آثار قاسية على الشعوب في تهيئة المناخ النفسي للتفاعل مع ثورات الشارع بالسرعة المذهلة التي نشهدها، إلا أن هذه الثورات كانت ستقمع بوحشية لولا الحماية والدعم السياسي والإعلامي الذي كفلته قوى العالم الكبرى.. فيا ترى ما سر انقلاب الغرب على حلفائه، وأي مسار للتغيير يتطلع إلى بلوغه؟ إن المؤشرات التي بين أيدينا تنبىء بعودة قوية للتيارات اليسارية، وأن العالم العربي يتجه لإعادة تشكيل نفسه وفق خرائط عقائدية - دينية ومذهبية - تمهد لأخطر منعطفاته التاريخية التي قد تفضي به في النهاية إلى حلبة الصدام الحضاري. فتونس التي كادت العلمانية تكتم أنفاس مآذنها، وبمجرد إسقاط نظامها، أعادت الإسلاميين إلى الواجهة ليدشنوا عهدهم الجمعة الماضية بتظاهرة كبيرة ضد (بيوت الدعارة) وكانوا على وشك إحراق حي كامل تتفشى في بيوته الرذيلة، ومثلما سمح التغيير لهم بالصعود لأول مرة إلى دوائر القرار السياسي فإن الإخوان المسلمين في مصر اعتلوا أيضاً سلم صناعة القرار السياسي بعد أكثر من نصف قرن من العلاقات الموتورة مع الأنظمة والحكومات المتعاقبة، وهاهم يقدمون الشيخ القرضاوي ليؤم الحشد المليوني في ميدان التحرير بصلاة الجمعة الماضية، ويطلق أول دعوة لاجتثاث جميع أركان نظام الرئيس مبارك. وفي ليبيا والجزائر أفاقت التيارات الإسلامية مجدداً، والتي تؤكد التقارير الإخبارية أنها هي من يقف خلف الستار، ويحرك بالخفاء أحداث الساحة الشعبية، أما في البحرين فإن الإسلاميين (الشيعة) هم من قلبوا الطاولة، منتهزين فرصة العمر لفرض نفوذهم بقوة في دوائر صنع القرار السياسي بعد عقود من الإقصاء، رغم أنهم الأغلبية، وفي العراق فإن التظاهرات الصاخبة يقود غالبيتها العظمى التيار الصدري (الشيعي) الذي يتبع الخط الثوري (الحوزة الناطقة) المماثلة لإيران، وكذلك البحرين، فيما تسري توقعات محللين ترجح امتداد ثورات الشيعة إلى الكويت والمناطق الشرقية السعودية والشمالية اليمنية؛ لتشكل مع (العلويين) في سوريا حزاماً (شيعياً) عريضاً مسنوداً من ظهره بإيران ذات النفوذ العسكري والاقتصادي القوي. وإذا ما انتقلنا إلى اليمن فإننا سنجد أن الإسلاميين (حزب الإصلاح) يمثلون أكبر القوى السياسية المؤهلة للصعود إلى الحكم بعد انتهاء الدورة الرئاسية للرئيس صالح في2013م، في حين نجد السودان بوضع مختلف نسبياً؛ إذ إن التشطير يحولها إلى دولة إسلامية وأخرى مسيحية في الجنوب، علاوة على أن الهجمات الإرهابية التي استهدفت كنائس في العراق ومصر أسفرت عن قيام الغرب بإطلاق أبواب الهجرة لمسيحيي العراق وأقباط مصر وتبنى احتضانهم في بلدانه. وفي ضوء ما سبق نجد أن ثورات الشارع لا تتجه نحو مسارات الدول العلمانية التي تتعايش داخلها مختلف الطوائف والفرق وفق أطر مؤسسية قوامها سيادة القانون، بقدر ما ترفع إلى السطح قوى يسارية متشددة تتعاطى بعصبيات مذهبية ودينية، وإذا قرأنا جيداً مدلول وصولها إلى دوائر صنع القرار السياسي لأدركنا مدى حجم الخطر المحدق بعالمنا العربي؛ نظراً لارتفاع احتمالات الصدام المذهبي والديني طالما وأنها قوى تجتر الكثير من المواريث الثقافية البالية. بتقديري أن الغرب، وفي مقدمته الولاياتالمتحدة.. استفادوا كثيراً من دروس الفتنة المذهبية في العراق وما صاحبها من تداعيات دفعت بدول كبيرة إلى دخول اللعبة من وراء الكواليس، وأفضت إلى تسهيل المهمة الأمريكية في العراق، وبالتالي فإن تمكين تيارات إسلامية (محرومة) من الصعود إلى الواجهة وامتلاك الإمكانيات المختلفة من شأنه تهيئة المنطقة لخوض أوسع صراعاتها التاريخية، خاصة وأن هذه القوى لم تصعد على السلم الديمقراطي وإنما بقوة الفوضى (الثورية) وبوسائل التفت بها على الوعي الشعبي بدعم القوى الكبرى، وبالتأكيد إن أي اضطرابات عربية تنعش تجارة السلاح وغيرها، وتفتح أبواب الابتزاز للدول النفطية على مصراعيها، وتبدد قلق الغرب من أزماته المالية بوضع المنطقة تحت رحمة الاستعمار الاقتصادي.