لأن طريق القضاء في بلادنا طويل ومتعرج ومتعب جداً، والتقاضي في محاكمنا أشبه مايكون بحرب استنزاف يخوضها المتخاصمان تحت إشراف ورعاية هيئة المحكمة الموقرة من قضاة ومساعدين وأمناء سر وكتّاب أصحاب الفضل في إشعال هذه الحرب وإطالة أمدها سنوات ,ولهذا فقد قرر الحاج ناصر الرعوي بن الرعوي أن لايخوض هذه الحرب وأن يختصر السنوات إلى أسابيع أو حتى إلى أشهر ويكون بذلك قد وفر على نفسه الوقت والجهد والمال معاً، واختار اللجوء إلى ديوان الشيخ لحل قضية خلاف مع أحد جيرانه بدلاً من اللجوء إلى ساحة القضاء، فاحتكم للعرف والقبيلة ولم يحتكم للشرع والقانون ووثق بسلطة الشيخ أكثر من ثقته بسلطة القاضي.. لأن الحياة وتجاربها علمته أن لايلقي نفسه إلى التهلكة وأن يستفيد من أخطاء الآخرين ولايغامر ويبتعد قدر المستطاع عن دهاليز المحاكم وحيل المحامين وتلاعب أمناء السر واستهتار القضاة ومماطلتهم .. وحين لامته ابنته التي تحمل شهادة جامعية من كلية الحقوق على هذه الخطوة وسألته عن السبب الذي دفعه إلى تحكيم شيخ بدلاً من تقديم شكوى أمام المحكمة المختصة، كون القضية واضحة ولاتحتاج لأكثر من جلسة إلى جلستين.. أجابها وبكل بساطة أنه لايريد أن يقضي بقية عمره في دهاليز المحاكم ولا يريدها - وهي ابنته الوحيدة- أن ترث الشريعة بعد موته، كما أنه يريد أن يرتاح في الكم شهر داخل وطنه وبين أهله قبل أن يعود إلى الغربة من جديد.. والمثل يقول «نار الشيخ ولا جنة القاضي»، لأن الشيخ - وكما قال الحاج ناصر- وإن جار في حكمه وظلم قليلاً، إلا أنه يقطع وينجز القضية بأسرع وقت، والأهم أنه يقوم بتنفيذ حكمه بنفسه، أما قاضي المحكمة وإن عدل وأنصف، فإن حكمه يطلع بعد خروج الروح وبعد سنوات من الأخذ والرد والمماطلة والبيع والشراء والبهذلة والخسارة، وفي الأخير حكم حبر على ورق ولايمكن تنفيذه على الواقع. ولكي يثبت الحاج ناصر صحة كلامه , اتفق مع غريمه على تحكيم الشيخ صالح المعروف بصلاحه وحبه للخير ومساعدته للآخرين، والأهم من هذا أنه ينجز قضايا المواطنين بأسرع وقت وأتعابه خفيفة، يعني شيخ يقنع بالحاصل، كما يقول المقربون منه، وفعلاً تم تفويض الشيخ صالح وتسليمه عدولاً إلى جانب أوراق كل منهم كما طلب، وحدد يوم لجلسة في ديوان الشيخ للنظر في قضية الحاج ناصر وغريمه .. وفي اليوم المحدد ذهبوا إلى منزل الشيخ ولم يجدوه وقيل لهم إن الشيخ معتصم ولأكثر من شهرين، والحاج ناصر يسمع نفس العبارة «الشيخ معتصم»، ياحاج ارجع مرة ثانية، والغريب أن الشيخ برمج تلفونه للرد على المتصلين بنفس العبارة، مضافاً إليها دعوته للمشاركة في الاعتصام.. وأسبوع بعد أسبوع، فلا الاعتصامات توقفت ولا الشيخ صالح بطَّل يعتصم ويلتفت لمصالح الرعية وقضايا المواطنين الذين وثقوا به وحمّلوه الأمانة.. ولأن موعد سفره قد اقترب، فقد قرر الحاج ناصر أن يذهب إلى مكان الاعتصام، ويقابل الشيخ صالح هناك.. ولكن أين سيجده، أماكن الاعتصامات كثيرة وأصبحت تنافس الأسواق الشعبية، والمصيبة أن الحاج ناصر لايعرف انتماء الشيخ صالح، هل هو مع المعارضة أم هو مع الداعين إلى حوار وطني يجنب البلاد ويلات الحرب والدمار.. مشكلة لم تكن بحسبان الحاج ناصر الذي اتخذ قراره وحزم أمتعته وعاد إلى أمريكا، حتى ينهي الشيخ صالح اعتصامه ويلتفت لقضايا الرعية من المواطنين الذين راهنوا على ديوانه أكثر من رهانهم على قاعة المحكمة. فهل صحيح ديوان الشيخ ولا قاعة المحكمة؟.