اعترف للقارىء أنني مررت أثناء نضجي الفكري بمراحل أكاد لا أصدق نفسي فيها ، بين لا شيء وبين الحيادية وبين التعصب وبين الانقتاح والنضج ، وكذلك خلقنا الله طبقاً عن طبق «وخلقكم أطوارا, مالكم لا ترجون لله وقارا». ومن أعجب الأمور التي كانت البيئة المحلية توحيها لنا أن تعليم المرأة يفسدها ولا يرقيها, كما ينقل عن أبي العلاء المعري: «وعلموهن الغزل والنسج وخلوا قراءة وكتابة». ولقد طبقت هذا أنا البطل بصرامة على أختي فحرمتها من متابعة التعليم, وأنا أحزن وأندم حتى هذه الساعة, ولكن لو بكى الإنسان دموعاً بقدر مياه دجلة هل سيعيد ما حصل؟!. وأنا اليوم أحاول تصليح أخطاءي وأتوب إلى الله العلي الغفار, ولقد هيأت لبناتي الآن كل مارغبن وزيادة, وأصغر بناتي الآن تدرس في الحقوق ولم ترغب في الطب نهائياً لأن الطب عمل يدين ومناوبات ليلية مرهقة. والمهم فعند تدفق قصتي من حفريات الذاكرة عرفت أنني لست الوحيد الذي كان أعمى فهداه الله كما قال فرعون لموسى وهو يمن عليه: “وهل نسيت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين, قال فعلتها إذن وأنا من الضالين, فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين”. فلا عجب من انقلاب الأشياء إلى أضدادها, وكما في الحديث أن الناس معادن وخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. وفي عام 1899م سمحت ألمانيا للمرة الأولى بأن تدخل البنات كلية الطب فتتخرج طبيبات, وكانت الفتوى أنه لا يليق بالمرأة أن تختلط بالرجال وأنها لا تتحمل رؤية المصابين وقطع الأعضاء في الحروب ومناظر الدم المريعة في الجراحة ورؤية الجثث في دروس التشريح وهي عارية, وكأن الجثة تستحي أو أن الطب يتقدم دون معرفة كل شيء في الجسد. وفي ألمانيا يعلّمون الطبيب حكمة الكشف عن كل الجسد, لأنه وحدة مترابطة, أما عندنا فيجب الكشف عن ثقب بحجم رأس دبوس, ولكن يجب مسايرة عقول الناس وإلا خسرت رأسك ورزقك. كما حدثني من أثق أن فوجاً من المتشددين هجموا على رئيس بلدية يطلبون منه نفي القرود من البلدة, وكان الرجل قد وضعها تسلية للناس بجانب شلال مائي, قال المتعصبون إن القرود تمارس الجنس علانية!!. قال: ويحكم ولكن هذا يحصل في مزارعكم بين الجمال والماعز والخرفان والأرانب على مرأى ومسمع؟!. قالوا: لا, هذه تحدث في أماكن تجمع ورؤية الناس. والمهم مازالوا بالرجل يأخذونه بين الحبل والغارب حتى نفى القرود إلى غير رجعة نكالاً لها. أما في الولاياتالمتحدة فقد كانت سباقة في تعليم البنات, فقد أسست كلية للطب في فيلادلفيا للبنات في ولاية بنسلفانيا قبل نصف قرن من ألمانيا عام 1848م, وأنا زرت هذه المدينة العريقة حيث كتب أول دستور لأمريكا, وقصة المرأة في التاريخ مليئة بالعبر والحزن. وفي بريطانيا لم يسمح للنساء بالإدلاء بأصواتهن إلا في عام 1912م بعد يوم حافل من ضرب النساء لمدة ست ساعات على يد الشرطة في قلب لندن ومقتل اثنتين. والمهم فالتاريخ هو رحلة على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع.