التغيير: ما أكثر ما ترددت هذه الكلمة على أسماعنا.. ما أشد ما تشوقنا لمعانيها.. وما أشد ما رغبنا في تحقيقها.. رددناها في محطات حياتنا وأعمالنا.. وشيدنا أوتادها في قلب خططنا وأهدافنا.. ما أقوى ما تحدثنا عنها في مواطن مختلفة.. ما أكثر ما تغنينا بها وعزفنا على أوتارها في كل المناسبات.. وألتبنا بها مشاعر الفتيان والفتيات وزيناها في أسماعهم وقلوبهم.. ورسمنا بسمتها على كل الشفاه... التغيير كلمة مدلولاتها جداً جميلة، ووقعها في النفس مع الحاجة أجمل وأجمل، ولكن حتى يتأتى التغيير بهذه المدلولات لابد وأن يرافق هذه البغية وسيلة صحيحة بقدر ما تكون نظيفة وصادقة، بقدر ما تكون هادفة ومثمرة.. أولئك الذين وقفوا عند تلك الكلمة وأخذوا حروفها عارية كسيحة مجردة عن أي كسوة، دون قواعد ضابطة توصلها إلى بر الأمان كما يجب. التغيير: شيء جميل والتطلع لمستقبل زاهر أيضاً جداً جميل.. وأجمل منهما الأدب والمروءة.. عندما تشرق النفس بفضيلة نابعة تستقيها من فطرة طبيعية أصيلة، تكون نفساً ساكنة راضية وحكيمة.. وبالتالي يكون سلوكها بمقدار ما تحمل من تلك الحكمة والسمت الفطري الرباني.. وكيف نحقق ذلك؟ للأسف كل ما حولنا أضحى يعميه الضباب الأسيف.. ما أكثر ما يردد الشباب أولئك الفتية المفعمون بالحماسة تلك العبارة: نريد التغيير.. نحن شباب التغيير.. نحن الطليعة الحرة.. وللأسف لو علم هؤلاء أنهم ليسوا إلا أدوات لتلك القوة الخفية قوة الأحزاب بمخالبها واتجاهاتها الظاهرة والباطنة.. يحركونهم بالريموت من وراء الجدران يميناً وشمالاً وكما يريدون، الفرصة مواتية والفريسة سهلة والعمل قد آن وقته. يستثيرون حماسهم بكل اللغات والوسائل دون وازعٍ من دين أو ضابط من أخلاق حتى وصلوا إلى مرحلة يستحلون فيها سفك دماء هؤلاء الشباب من أجل ماذا أيها السادة؟. ليتهموا الطرف الآخر “النظام” بأنه قام بهذا الجرم من إراقة الدماء وإزهاق الأرواح بل ويتفننون في عرض الصورة والأحداث بأبشع مظهر هذا ما كشف عنه واقع الحال بأشكال مختلفة رموز كثيرة اليوم في الساحة تتكشف أستارها وتتضح أبعادها يوماً بعد يوم يفيق ويتغافل عنها من طمس الله على بصره وبصيرته وكذلك الفتنة تعمي البصيرة لا البصر. فأي تغيير ننتظره عبر وسيلة ملوثة ولو علم هؤلاء الشباب المساكين المغرر بهم أبعاد تلك المخططات وأبعاد تلك النفوس بأهوائها المريضة لعضوا على أناملهم أسفاً وحسرة.. يقيناً سيأتي مثل ذلك اليوم لكني أخشى أن يكون يوماً لا تنفع فيه الحسرة ولا الندامة، يكون الفأس قد وقع في الرأس.. غير أني أسأل المولى أن ينجي وطننا الحبيب من كل فتنة وضائقة، وأن يجعل هذه الفتنة الغادرة على ذويها ومن يؤجج نيرانها.. ماذا نشاهد في ساحات التغيير والحرية ساحات المطالبين بحقوق الإنسان؟! نشاهد ونسمع كلاماً يندى له الجبين حياءً وأسفاً.. يقول ما لك بن نبي رحمه الله: “إن التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى الكلمة الواجبات الخاصة بكل يوم، بكل ساعة، بكل دقيقة وليس في معناها المعقد كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة.. يعطلون بها التاريخ بدعوى أنهم ينتظرون الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة”. إذا ما وقفنا وقفة تأمل عميق عند تلك العبارة للمفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله - سنجدكم تمنحنا من المعاني التي ربما نكون أحوج ما نكون إليها الآن والتي أساسها موجودة في الكتاب والسنة النبوية الشريفة.. الواجبات أولاً والمتمثلة في أبسط معنى الكلمة ولو وضعنا خطوطاً حمراء تحت تلك الكلمة وقارنا ماذا يحدث في الشارع لنكسنا رؤوسنا حياءً وأسفاً.. إلى أين وصلت أخلاقنا؟! ولا تكون الملامة فقط على الذين يتفوهون بالسباب والشتم أيضاً على أولئك العقلاء القابلين للحال كما هو الصامتين رضا بما يحدث.. إنكار المنكر واجب وإبداء النصح واجب وإقامة كتاب الله بما فيه من أحكام واضحة جليلة أمانة في أعناقنا.. بالله بماذا حققنا الإسلام وكم أصبحت الفجوة بيننا وبين الإسلام.. ثم نأتي لنشكو الظلم والطغيان وصدق المولى في قوله: “ذلك بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير”. مظاهراتنا سلمية.. كيف ذلك؟ عندما أسمع ذلك الفصيح يجلجل بأعلى صوته: إن مظاهراتنا واعتصاماتنا سلمية.. ونحن نستقبل الطرف الآخر بصدورنا العارية.. يأخذني العجب مسافات عميقة لا أدري كيف أفلي معانيه!! غير أني استحضر قوله تعالى: “وزين لهم الشيطان أعمالهم” وقوله تعالى: “لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”. إذا ما وقفنا عند مفردة واحدة من تلك المفردات التي يرددونها وبلا استثناء وهي كلمة: ارحل كلمة قتلت في نواصيها كل معاني السلام وتجردت من كامل الذوق والأدب التي تنأى النفس الأبية عن تقبلها أو سماعها فضلاً عن الكلمات والشعارات والوسائل الأخرى السفيهة والمخجلة والتي يرددونها في خطاباتهم ومهرجاناتهم في الشوارع والطرقات بشكل أوبآخر.. بل ويحفظّونها أطفالهم وذويهم ثم يتقدمون بها في قنواتهم ومسيراتهم وبكل افتخار.. أخشى أيتها الأم وأيها الأب أن تسمع طفلك يوماً ما يخاطبك أنت بنفس تلك العبارات ! كما بذرت ستحصد وستجده حتماً أمامك وكما تدين تدان.. وهذا مايحكيه واقعنا. عندما تقود المظاهرات تلك الكلمات الصاخبة في الشتم والسب والتجاوز لكل قوانين الذوق والاحترام.. كيف تكون مظاهرة سلمية ؟! المظاهرة السلمية هي التي لا تستخدم الاستفزازات ضد الطرف الآخر بأي لون وبأي شكل.. المظاهرة السلمية هي التي تطوق نفسها بإطار من القواعد والضوابط الأدبية والشرعية.. هي التي تعبر عن قضيتها بطريقة شريفة وخلاقة.. هي التي تفرض على الآخرين احترامها قهراً. أما أن تخرج للساحة تشهر سلاح السب لتخرج كلماتك عارية مجردة من أبسط قواعد الأدب ثم تأتي لتقول: إن مظاهراتنا سلمية فبالله عليكم على من تضحكون ؟! أتقيسون كل الناس بطبع واحد ؟ إنه منتهى الغباء.. على أبسط حال إذا كان الصغار والسفهان فيكم قد تقولوا بهذه الأساليب فأين كباركم؟ أين المثقف والطبيب والمحامي والشيخ وهلم جرا ويتقدمهم جميعاً “الإصلاح” بجحافله شيوخاً ودعاة وخطباء.. ليهذبوهم ويكرموهم.. الكل متفق والكل راضٍ والكل سواء... حقاً نحن في زمن الغثاء.. نسأل الله السلامة والعافية.. رب كلمة أحيت أمة ورب كلمة قتلت أمة. قال تعالى : { مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض مالها من قرار}. متى يتحقق التغيير الإيجابي؟ عندما يقوده شباب هم أشد البعد عن الأحزاب والمتحزبين شباب يمتلكون القدرة على طرح قضاياهم بطريقة شريفة وكريمة ومهما تكون قضاياهم.. وحتى يتحقق الهدف بشكل ايجابي لابد له من وسيلة ايجابية خالية من أي شوائب أو مناكير ملوثة.. ولكن عندما تكون الوسيلة المستخدمة من أجل تحقيق الهدف وسيلة صدئة رائحة نتنها تزكم الأنوف.. فأي النتائج تنتظرها ؟! عندما تفتقد الوسيلة تلك الثوابت الفطرية والشرعية حتماً النتيجة مأساة وبلى شك، وبالتالي سيكون تغييراً ولكن سلبياً وبلا جدال.. عندما تكون الأداة المستخدمة في التغيير هي الثقافة الهابطة، يصبح تغييراً سلبياً.. هذا ماينبئ به واقع الحال في ساحاتنا.. لست ضد التغيير الايجابي ولكني أشد ما أكون ضد التغيير السلبي وأيضاً ضد العنف الذي يستخدم كوسيلة إعلامية وحرب نفسية وكأداة من أدوات التغيير السلبي، عنف الكلمة وعنف الخطاب الذي تجاوز في مقامه كل الثوابت والضوابط والشرعية والأدبية.. الفساد الذي يدفع بفساد لا يأتي إلا بكارثة عظمى.. نحن بحاجة إلى تغيير.. أي نعم.. ولكن تغيير ايجابي ، ينهض بالأمة من سبات نومها العميق.. تغيير بعيد عن ميزان المعادلات بعيد كل البعد عن الأحزاب والمتحزبين بعيد عن ساحة الهرج والمرج بقيادة القرني والأضرعي بطريقة يندى لها الجبين.. الذين يقودون ساحة الاعتصام إلى الهاوية، نرفض التغيير الذي يتزعم ويقود منصته الإعلامية الإصلاحي والاشتراكي “قطبان مختلفان أنى يلتقيان”.. نرفض التغيير الذي يستخدم الثقافة الصفراء ، ثقافة السب والكذب والتجاوز للاحترام ويهمش الذوق العام.. نرفض التغيير الذي يتجاوز الكتاب والسنة والأخلاق...