حتى وإن سقطت أوراق حياتهم عن شجرة القدر إلاَّ أنهم لا يموتون أبداً فهم عالقون في ذاكرة البشرية كإنجاز إنساني ضخم خلفتهُ عقليات في قمة العبقرية. أولئك الذين أهدتهم السماء هديتها الخالدة ومنحتهم منحها الأزلية ليقربوا البعيد ويوصلوا الممزق ويختصروا العالم في شاشة أو رقاقة أو شريحة أو ذرة. أليس عظيماً ذلك الرجل الذي جعل بيننا وبين الأسود والأفاعي والقتلة المأجورين وقنابل الغاز السام حاجزاً شفافاً من الزجاج وصفائح رفيعة من الحديد؟! أليس رائعاً أن تتناول البوب كورن أو المثلجات وأنت تسترخي بفتور أمام تلك الشاشة العجيبة؟! أو ليس عظيماً ذلك الرجل الذي منحنا فرصة الحديث مع والدينا كل يوم مهما ابتعدا عن أعيننا، أليست عظيمة تلك العقول التي رحمت أيدينا أن تهترىء ونحن نخوض في أحواض الغسيل تعلو رؤوسنا رغوة التعب، أو تلك التي أشفقت على نواصينا من لهب النار ونحن نتدلى لنسرق الخبز الساخن من بطن التنور؟ أليس عظيماً ذلك الذي اخترع ما يبقي طعامنا طازجاً وكرات الأيسكريم مجمدة وشرابنا الوردي بارداً؟! نعم عظماء لأنهم جعلونا نرتدي ثياباً غير مجعدة ونتابع سير أعمالنا بسهولة ونقطع مسافات طويلة بأقل جهد ممكن ومنحونا فرصة رؤية الأرض بحجم كرة البلور وبهروا أعيننا ونحن نجلس ساعات طويلة أمام أيقونات صغيرة لم نكن نعلم عنها قبل اليوم شيئاً يُذكر.. عظماء في حبات الدواء التي أنستنا مرارة الصداع وفظاعة الأنفلونزا وبشاعة حمى الأطفال وأمراض أخرى خبيثة أبادت الملايين من البشر.. آلات عظيمة وحديثة سهلت تفاعل الإنسان مع الطبيعة وجعلتهُ قادراً على الإنجاز واللحاق بركب الأمم المتقدمة ولكن بالمقابل جعلت منه قطعة حديد متقدمة ومتحركة وخالية تماماً من المشاعر، إنساناً منتجاً للطاقة بقدر ما يستهلك منها وليس لديه القدرة على عمل المزيد. ولم يكونوا عظماء أولئك الذين اخترعوا آلة الدمار تلك وأرهبونا برائحة البارود وصوت الرصاص ورسم الدبابات وأجنحة الطائرات الملونة بالرماد والوحل والوحشية. لم يكونوا عظماء من تفننوا في اختراع المتفجرات والمنومات والمنبهات وحبوب الهلوسة وبودرة الهروين ونكهات الأرجيلة ولفافات الدخينة وسموم من كل شكل ولون. ليسوا عظماء أولئك الذين عبروا الطريق إلى الانحراف بشتى ألوان اللذة المؤقتة واستخدموا الإنسانية ككيان من المشاعر والأحاسيس كألغام لقتل خصومهم والنيل من أعدائهم فقط لأجل مصالحهم الخاصة ودون الاكتراث بمن جعلوهم وقوداً محترقة كقطع الخشب في المدفئة. فرق كبير بين من رسم أجمل لوحات العالم بذلك الإحساس المرهف والشفافية المؤثرة ومن سرق من البشر أجمل ما يملكون وأثمن ما يقتنون.. إنه الأمان والطمأنينة في أوطانهم الحب وحدهُ هو الذي خلق عظماء أحبوا الخير ونفعوا البشرية ونشروا السلام والراحة والرفاهية باختراعات ستشفع لهم يوم الخلود، والكره والضغينة وحدها من جعل الآخرين من تجار الدمار والحروب يخترعون ما يؤذي الإنسان ويجرح كبرياءه ويكسر صمته ويملأ بصراخه أرجاء الأرض. نعم هو القدر الذي بدأ قصة الخير والشر في فصل قابيل وأخيه هابيل لكنني ما زلت لا استوعب كمية الدمار والأسى والتخريب التي صنعها الإنسان بيديه، ودائماً يتملكني إحساس قوي أن الشيطان يكون حاضراً في مصانع السلاح والسجون وساحات المعارك والصدور التي تقتل نفسها بغيضها.