لست أدري هل مثقفونا ومفكرونا فقدوا القدرة على القراءة والتحليل للوضع اليمني، أم أنهم ينطلقون من عداء شخصي للنظام، وبالتالي يوهمون أنفسهم باستنساخ التجربة المصرية ونقلها إلى اليمن.. كنت قد قرأت للدكتور صادق الحزمي مائة اختلاف، بين اليمن ومصر ولن اتوقف أمام هذه الاختلافات وإنما سأتوقف أمام مايجري اليوم في مصر من صراع طائفي: هناك تصعيد في محافظة قنا بعد تعيين محافظ قبطي , حيث عطلت المرافق وانتهكت القوانين ووضعت ماسميت بثورة 25 يناير ومعها مستقبل المشروع المدني الديمقراطي أمام امتحان عسير، فالتراجع من قبل الحكومة عن تعيين اللواء ميخائيل سوف يفتح باباً من أبواب جهنم الطائفية لن يغلق مرة أخرى في المستقبل القريب ,وسوف يترك غصة في قلوب المواطنين الأقباط تعمق لديهم شعور الاغتراب في بلدهم. وفي زحمة هذه الأحداث لم نسمع تعليقاً للبرادعي عن هذه الأحداث، خاصة وهو المبشر بالتغيير وقد وصف التفريق بين المواطنين على أساس العقيدة الدينية بأنه قد انتهى في العالم. ولست بحاجة للقول بأن هناك فرقاً بين الحسابات الوطنية والحسابات السلطوية في مصر، التوتر الطائفي يتصاعد , وهناك أحداث بشعة جرت لكنائس وبيوت يذكر فيها اسم الله ,لكن ذلك أمر وماجرى من قطع أذن مواطن وقتل آخرين من قبل جماعات سلفية أخذت القانون بيدها، يجعل التساؤل مشروعاً عن الطريق الذي تسير فيه الثورة المصرية.. ولست أدري هل غاب عن الثوار المصريين ذلك الاستقبال الحافل لمن قاموا بقتل الرئيس السادات، ولاشك أن الإخوان المسلمين في مصر أمام اختبار حقيقي فيما يجري في محافظة قنا، ولن يستطيعوا المواربة أو المغالطة في إصدار بيان أو تصريح ملطف، فهم إما مع المشروع الديمقراطي القائم على التعددية أو الدفع به بعيداً وتأجيج الطائفية. هذه هي معالم الثورة المصرية وهي تختلف عنا في أنها جاءت في بلد يتمتع بالمؤسساتية منذ خمسة آلاف سنة، فالتغيير لايتحقق بالكلام والوعظ والإرشاد، وإنما يتحقق بخطط وآليات وبرامج قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، ولأن التغيير ليس مجرد حلم يمكن بلوغه بالتمني والأمل والرجاء، وإنما هو عملية معقدة تصطدم بتحديات وعقبات ومصاعب متنوعة. ومن هنا تأتي أهمية الفهم الصحيح بأن التغيير بحثاً عن الأفضل وعن الجديد لا يعني هدم ماهو قديم، وإنما يتطلب الأمر بناء الجسور القوية من الثقة والحب والاحترام المتبادل بين جميع الأطراف.. نحتاج في اليمن إلى حوار بين كل الأطراف المؤتمر المشترك الحراك معارضة الخارج الحوثيون الشباب، حتى يكون هناك وضوح في الرؤية وجدية الاقتناع ومصداقية القبول بما يتم التوافق عليه، لتنشأ تلقائياً إلزامية التراضي. لقد قال الفيلسوف السياسي ليوستراوس إن جوهر السياسة هو التغيير أو المحافظة على الأمر الواقع، ويكون التغيير واجباً حينما يكون أخذ الأمور إلى ماهو أفضل وأكثر تقدماً، وتكون المحافظة لازمة إذا ماكانت الأوضاع سوف تسير إلى الأسوأ. بالتأكيد أن هناك مهاماً عاجلة على طلاب التغيير أن يواجهوها من أول صيانة الوحدة الوطنية والحفاظ على الطبيعة المدنية للدولة، حتى لايكون التغيير سائراً إلى الخلف وليس للأمام.. نحتاج في الوقت الراهن إلى وضع فلسفة للتغيير. إن تعزيز الوفاق الوطني خلال المرحلة القادمة من خلال اتفاق غالبية القوى السياسية والاجتماعية على برنامج واضح يؤسس لنظام ديمقراطي يضمن انتقال الحكم على نحو سلس إلى سلطة شعبية منتخبة انتخاباً صحيحاً، تستطيع مواجهة تحديات ضخمة مقبلة تتكشف الآن مثل قمم جبال الجليد التي يختفي معظمها تحت السطح , من الواضح للمتابع لما يجري أن الأغلبية الصامتة التي لاعلاقة لها بالمؤتمر الشعبي العام تتبرم ضيقاً من المعتصمين والمفاهيم التي تسيطر على عقولهم، أخطرها الإصرار على رفض الرأي الآخر وإنكار وجوده , والاعتقاد المسبق بأنهم يحتكرون الحقيقة وأن مايرونه فقط هو الصواب المطلق، ولا أعرف مدى قدرة هؤلاء الشباب واستعدادهم لمراجعة بعض المفاهيم والأفكار التي تشيع الآن على ألسنتهم تحت دعاوى القائمة السوداء، وضرورة التمييز بين أصدقاء الثورة واعدائها إلى آخر هذه القائمة من المعطيات الخاطئة التي تم تجربتها في اليمن خلال فترة الستينيات والسبعينيات في الشمال والجنوب أدت إلى قسمة القوى الوطنية إلى رجعيين وتقدميين وأصدقاء الثورة وأعدائها وذاق مرارتها آلاف الأبرياء الذين دخلوا السجون وتم تصنيفهم على أنهم من أعداء الثورة، ثم تكشف بعد فوات الأوان خطأ هذا التصنيف الذي مزق وحدة الوطن وجعل الجميع يشكك في الجميع. ومايزيد من وطأة الإحساس بهذه المشاعر الملتبسة لدى كثيرين أصابهم الملل من كثرة مايرون من غياب الاحترام للنظام العام وانتشار ظاهرة قطع الطرق والشوارع، ومن الطريف أن ينضم إلى ساحات الاعتصامات وصار ثورياً بحماس شديد كل من كان مشاركاً في الفساد أو أدار حروباً دامية أو كان على رأس الأمن السياسي وفتح السجون والمعتقلات على مصراعيها، أو كان قاطعاً للطريق وناهباً للأراضي، أو من أثرى بطرق غير شرعية، ومن العجيب أن ينادي بالدولة المدنية رجل غير قادر على التخلص من لقب شيخ، ويرى هذا اللقب أغلى من اليمن ومن الشعب كله! [email protected]