الصبر أولى خطوات المرء نحو الحكمة، وأولى لبناته نحو الوصول إلى القمة، إذ بالصبر الجميل وحده ينال الإنسان ما يريد ويرقى إلى ما يروم ويصل إلى ما تمنى،لأن الصبر يقود إلى الحلم والروية، ودقة التخطيط، والتغاضي عن التفاهات والارتقاء إلى مستوى المسؤوليات، والصابر ظافر لا محالة حتى وإن لم ينل من صبره ما كان يصبو إليه، لأنه بصبره واحتسابه شرب من كأس القناعة ورضي بما باعته الحياة من بضاعة! فالصابر قد رضي بالمكتوب ولم يركن إلى حسبة النفس وحيلة العقل وهذا مفتاح للكنز الفرج {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا}سورة الشرح آية«56» وللصبر معنيان أحدهما لغوي والآخر شرعي، فالصبر في اللغة المنع والحبس، منع النفس من الجزع واللسان من التشكي والجوارح من الاستسلام للخوف والهلع وما يتبع ذلك من لطم الخدود وشق الجيوب. {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم}الكهف “28”وأما معناه شرعاً فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل في الميزان وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.ومن أجمل ما قيل في تعريف الصبر قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه«الصبر مطية لاتكبو» وهي حكمة من ذهب إذ لا يخسر الصابر أبداً، فإن نال جزاء صبره ربح وإن أجلت جائزته كان ثمنها أكبر ولو لاحظنا لوجدنا أن الصبر رفيق الشكر دائماً إذ لا يجب أن يصمت الإنسان ويحبس جوارحه دون قناعة بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وفي قصة أيوب{إنا وجدناه صابراً}ص44.ومع هذا فإن الإنسان بمنتهى ضعفه وحاجته للغوث والرحمة والسكينة لابد أن يشكو لكن الشكوى لا تكون إلا لله وحده {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}يوسف “86”ونقيض الصبر هو الجزع{سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}إبراهيم “21”والصبر مراتب بعضها صبر على أداء الطاعات وبعضها صبرٌ على اجتناب الموبقات, وللصبر أكثر من صفة وهو على مسميات وفق أنواع من الخلق ومحاسن الصفات إذ يسمى الصبر على شظف العيش زهداً والصبر على المكتوب قناعة والصبر عند المواجهة شجاعة والصبر على حمل أعباء الناس مروءة وهكذا، وإذاً في كل خصلة طيبة نتقي بها خصلة سيئة صبرٌ منا وأي صبر! وكما هو العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم يأتي الصبر بالتصبر وهو القدرة على استيعاب الواقع كما هو بكل ما فيه مع عدم التشكي والسخط وهذا لا يتأتى إلا بالتدريب والتمرين حتى يصبح سجية واضحة وصفة جلية في خلق صاحبه. والصبر مثل اسمه مُر وهو على ثلاثة أوجه صبرٌ على الطاعات في إتيانها بنية الصلاح. صبر عن النواهي واجتناب مسبباتها. صبر على أقدار الله في قضاءٍ وقدر. يقال أن الإيمان نصفان«نصف صبر، ونصف شكر” ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى{إن في ذلك لآيات لكل صبارٍ شكور}وهذه الآية وردت في أكثر من سورة(إبراهيم«5»الشورى«33»سبأ«19»لقمان«31»)وهذا دليل كافٍ على فضل الصبر ودوره في ترويض طباع الإنسان والسيطرة على جموح نفسه التي لا تقنع بالقليل ولا ترضى بالكثير! لكن الواضح أن الصبر والشكر كلٌ منهما مدعاةٌ للآخر بل أن كلاً منهما توأم لصيق له لأنهما يترادفان قولاً ومعنى على كمال الإيمان إذ لا إيمان دون صبر على الطاعات أداءً وقناعة بها وبعد عن المعاصي اجتناباً وكراهية لها ولا إيمان أيضاً دون شكر على القدرة بالقيام على كل ما يقرب إلى الله وشكر على نعمة الله في تجنيب المرء من المعاصي ظاهرها وباطنها، فمن صبر شكر ومن شكر صبر وكلٌ منهما يسبق الآخر ويلحق به تتابعاً بغير اختلاف. قال تعالى{ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} سورة البقرة(155157)إذاً فالصابرون مبشرون بالرحمة والرضا والهداية من الله سواءً صبروا على طاعة وداوموا عليها، أو صبروا على معصية وغضوا الطرف عنها، أو صبروا على قضاء الله وقدره في صحة أو مال أو ولد...