حين يختلط حابل الأمر بنابله يصبح من الصعب أن نفصل الصوت عن الصدى والأصل عن الصورة بل وربما لم نستطع أن نعرف في خضم ذلك الصواب من الخطأ، نحتار اليوم في التمييز بين الوطن والمهجر، الزهرة والبندقية، صوت الرصاص والمفرقعات النارية! الوطن اليوم أصبح لدى البعض مجرد ذخيرة حية يمكن أن يطلقها لتصيب الهدف أو تخطئه، بل أن هؤلاء أصبحوا يرون فيه التجارة الرابحة متناسين أنه رأس المال الذي لا يقبل الربا أبداً ولا يحتمل المزايدة نهائياً، هناك أكوام من الأفكار القذرة المتعفنة التي يتبناها البعض والتي لا تصلح لأن تكون إلا لقمة ملتهبة في فم شيطان مريد، إذ لا زال هناك من يرابض على ساحة الوطن مُلقياً قذارة آرائه ودناءة أفكاره على طريق الحوار ناسفاً بذلك كل قواعد الإنسانية وممزقاً كل وثائق الألفة والسلام. أين هو الوطن اليوم؟! هل ضاع الوطن بين أوراق سياسية متداخلة ترفض أن تثبت هويتها أو تعرف مضامين برامجها دون العبث بأوراق الآخرين؟ هل ضاع في زحمة الحصول على فرصة ذهبية للظهور والتجلي على منابر حديدية عتيقة أكلها الصدأ؟! هل ضاع في ثورة هتافات قالت كل شيء عن نفسها ولم تقل عنهُ شيئاً؟!.. هل كان قطعة من الجليد؟! هل كل رغيفاً في يد جائع؟! هل كان حلوى في يد طفل؟! لم يكن الوطن كل ذلك ولن يكون لكن واقع الحال الذي صنعته ثورة الشباب لم يؤخذ كدواء إنما أُخذ كجرعة سامة قتلت الذين لم يقرأوا وصفة الثورة كبلسم يمكن أن يرمم ما مزقته أمراض الديمقراطية من أحزاب ودساتير وانتماءات لا تقوم إلا على أنقاض آخرين، اليوم أصبح من الصعب أن يستشف المرء صوت نفسه أو يعلن عن رأيه في فوضى سياسية قامت كبركان ثائر ثم تدحرجت كانهيار ثلجي مرعب ثم وقفت كسدٍ منيع ولا زالت في ذات المقام حتى ترتخي سدول الليل الثوري وتصبح للشباب مطالب قيد البحث والمتابعة بعيداً عن تذييلها بأسماء مزيفة اعتادت أن تأخذ أكثر مما تعطي وأن تهدم أكثر مما تبني.. أسماء دموية صوت الرصاص في مسامعها زغاريد ولون الدماء مشروب عرس وأحزان الناس في عينيها فكاهة! أسماء لرموز لا تعني الكثير حين يتعلق الأمر بكرامة الإنسان وعزته وحريته. لم يكن الوطن قطعة نقدية بوجهين لأن وجهه الآخر تحت الأرض في مقابر الذين رحلوا حاملين أغصان زيتون، والقضية لا زالت على مكتب الأقدار، إذ لا حلول انتقائية أو استثنائية بل حلول جذرية تعيد اليمن السعيد إلى خارطة العالم بعد أن حاول البعض تهميش حدوده ومسح تفاصيله وإعادة خطواته إلى الخلف ولكن هذا هو المستحيل بعينه إذ يفنى الناس وتبقى الأوطان شامخة مهمة البحث عن وطن يجب أن تكون عنواناً لحملة شعبية تترجمها سلوكياتنا الراقية في المبادرة بالتوعية وترك أبواب الحوار مفتوحة مع إغلاق أبواب الجدال بإحكام حتى لا تتسرب ثقافة الكراهية إلى خارج القمقم المريض أو تفوح رائحة المصالح فتزكم الأنوف المريضة وتسير على أثرها كقطعان الفئران لا تعي إلا أن تجر أذيالها! الوطن هو ميلاد المرء وفرحته وكل أمانيه اللذيذة وإذا لم نجرب أن نتذوق حلاوة السير أحرارا على أرض أوطاننا فأي طعم يمكن أن نتذوق؟! الأوطان حلوى الشعوب وزاد قلوبها ولو لم تكن كذلك ما قابل الرجال الموت بصدورهم طلباً للحرية إنما يجب أن نعلم أن لكل شعب سنة قد تطول وإلى أن تستفيق الشعوب تبقى الثورات هي الأجراس التي توقظ الهمم النائمة لكن دون العبث بالقيم والمبادىء الثابتة لكل شعب.