انتصرت ثورة 14 أكتوبر بعد أربعة أعوام من اندلاعها ضد الاحتلال البريطاني، وتمثل ذلك الانتصار برحيل آخر جندي بريطاني من جنوباليمن، غير أن انتصار الثورة لم يكن فقط على القوات البريطانية المحتلة، بل كان ضد ثقافة جرى تكريسها لخدمة المحتل، وعندما هُزمت تلك الثقافة انعكس الأمر على الجوانب العسكرية، فما كان أمام المستعمر سوى التفكير جدياً بمغادرة جنوباليمن والقبول بمفاوضات الجلاء الأخير ليتحقق الاستقلال في ال30 من نوفمبر 1967م. هزيمة الثقافة المؤيدة للوجود البريطاني والمعادية لثقافة الشعب الأصيلة كانت مفتاح النصر الكبير الذي أقنع الانجليز بضرورة تسليم الأرض لأهلها ليقرروا مصيرهم بأنفسهم، ثم إن خسائر القوات البريطانية تزايدت بهزيمة الثقافة التي كرّستها فكان ذلك سبباً في تغير قناعة وسياسة الاحتلال ليعترف في النهاية بحق جنوباليمن في الاستقلال والحرية. من هذا الفصل المتعلق بانهزام الثقافة ندرك أن انتصار الشعوب يتحقق من خلال انتصار الفكر والثقافة، وبالتالي عندما انتصر فكر الاستقلال وثقافة الحرية تحقق النصر الكبير على القوات البريطانية وانتصرت ثورة 14 أكتوبر. وفي كل زمن ومكان تبقى هذه القاعدة الأساسية بأن الهزيمة أو الانتصار يأتيان من بوابة الفكر والثقافة، ولذلك يطلّ علينا شاهد آخر وهو شاهد الوحدة اليمنية، فعندما انتصرت ثقافة الوحدة في المجتمع تحققت الوحدة الجغرافية وبسهولة غير متوقعة، وهو ما حدث بالفعل عندما تآكلت ثقافة رفض الوحدة مع مرور الزمن بعد حدوث الاستقلال إلى أن طغى صوت الوحدة على صوت التشطير من خلال ثقافة اجتماعية وسياسية آمن الناس من خلالها بضرورة الوحدة لوضع حد لمعاناة الناس من التشطير والعداوات الشطرية. وهكذا وفي كل مرة ينتصر الشعب يكون الانتصار أولاً للثقافة، ولأن الصراع مستمر بين ثقافات متباينة فإن الثقافة التي تطغى ينتصر مشروعها وإن كانت خاطئة لكنها لا تدوم إلى ما لا نهاية، ولابد لثقافة سوية وصحيحة أن تأخذ مكانها في النهاية. في المرحلة الراهنة شهدت الشهور الماضية صراعاً له علاقة بالثقافة إلى حد كبير فحدثت الأزمة وتعقدت وتداخلت الأوراق واختلطت ولاحت أشباح الصراعات والحروب الأهلية أكثر من مرة واقترب البلد من دائرة العنف والخراب ثم هانحن نشهد بوادر تراجع هذه الأشباح المرعبة انتصاراً لثقافة السلم والتوافق وإن كان الوقت مبكراً للحكم الأخير على انتصار هذه الثقافة ولكن لابد لها من الانتصار في خاتمة المطاف وعلى جميع الأطراف الوقوف إلى جانبها انتصاراً لها اليوم قبل أن تُراق الدماء وتُهدر المقدرات ويحل الخراب بالمدن والمنشآت.. حتى هذه اللحظة تلوح بوادر هزيمة ثقافة الصراعات والحروب وبالتالي سقوط مشاريع الخراب وانتصار ثقافة التعايش والسلم الاجتماعي. هذا الذي حدث من خلال التقارب الأخير لأطراف الأزمة جاء بناءً على هزيمة مُنيت بها نزعات الحرب والحسابات الخاصة والشخصية، فبعد شهور من الأزمة كشف كل طرف ما لديه وظهرت عناصر تدعو لثقافة لا علاقة لها بالسياسة فخُلطت الأوراق خلال هذه الفترة ولكن اتضح للناس وهو واضح بأن ثقافة الحلول التوافقية التي تضمن السلم الاجتماعي هي الصحيحة، فانعكس ذلك من خلال مواقف الناس وصمتهم عن نصرة ثقافة الحرب والخراب، وتدخل العامل الإقليمي والدولي دعماً لثقافة السلام في اليمن فحدث التقارب الذي بدا مستحيلاً في أوقات عدة، ونأمل أن يستمر التقارب إلى النهاية حتى لا تحدث انتكاسة للسلام.