قلنا إن الربيع العربي اسم استمد نغمته السائدة من الأدبيات السياسية لفترة الحرب البارة، لكن المضمون اختلف، وطرق التعبير تباينت بصورة حادة، فإذا كان ربيع براغ التاريخي المُكْتَسح بقوة الدبابات السوفييتة شكّل مقدمة لما بعد ذلك، فإن سقوط المنظومة الاشتراكية برمتها كان سقوطاً حراً متداعياً وخالياً من الدماء إلا في بعض الاستثناءات التي لا تكاد تُذكر، كالحالة الرومانية على عهد الرئيس المقتول نيكولاي تشاوشسكو. والطريف أن الصدام المسلح بين الجيش الروماني والحرس الرئاسي تمّ في غياب الرئيس تشاوشسكو، لكن ما جرى في العالم العربي مختلف تماماً، فمصر شهدت اعتداءات قاتلة على المعتصمين في الساحات، واليمن تجاوزت الأمر قليلاً من خلال إشعال مصفوفة مختارة من الحرائق في أبين وأرحب وتعز، أما ليبيا فحدث ولا حرج، وما يجري الآن في سوريا لا يحتاج إلى مزيد تعليق. وكانت تونس الحالة الاستثنائية الوحيدة لأن رئيسها السابق التقط الإشارة، وعرف مغزى العبارة، فوفّر على نفسه وشعبه محنة التقاتل العدمي، ومن المؤكد أن الجيش المهني التونسي وقياداته الراشدة كان لهم فضل مؤكد في تلك النهاية الناعمة السريعة. هل نسمي ما جرى ويجري ربيعاً عربياً، أم ثورة عربية، أم انتفاضة ؟ .. أقول: ليس مُهماً التسميّة، بل الفعل وأبعاده ونتائجه الماثلة والقادمة. والحاصل أن العالم العربي يشهد انعطافة مؤكدة، ويخوض سبيلاً لا مردَّ له، ويسلك درباً يعيد إنتاج كامل الاحتقانات التي أسهمت الأنظمة العربية في ترسيخها، وقدّمت لها الأسباب، وبدلاً من أن تجعل الزمان ونواميسه، والمكان وعبقريته شاهدين على التطور والنماء، عاكست الريح وتكبّرت على الحقيقة، وفتحت المجال لمظالم يشيب لهولها المولود، وليتها اكتفت بذلك، بل حوّلت أسباب النماء الى دمار، والفرح إلى أحزان، فحق عليها ما قاله المتنبي ذات يوم بعيد من سخريات الدهر: كلما أنبت الزمان قناةً ركّب المرء للقناة سنانا بل ازدادت محنة الناس، حتى أصبح الموت والحياة لديهم سيّان، فخرجوا في مصر وليبيا والشام واليمن ليواجهوا الرصاص بصدور عارية، وكأنهم يستعيدون ما قاله المتنبي أيضاً: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا نعم .. نعلم اليوم ما جرى ويجري على الأرض، لكننا لا نستطيع التنبؤ بالغد القادم، غير أن منطق التاريخ يقول إن العجلة التي تدور لا ترجع إلى الوراء، وأن دورة الزمن الدائرية تأخذ مجراها بكيفيات ملهاوية ومأساوية، ولكنها تجري لمصائرها المحتومة، كما تجري الشمس لمستقر لها بتقدير العزيز العليم. قال الحكيم العربي زهير بن أبي سلمى: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدٍ عمِ ونقول استطراداً إن العماء أصل المعرفة، والمجهول باب للولوج إلى المعلوم، وما لم يكن هنالك غيب فلا معنى ولا معرفة ولا رؤية. [email protected]