مازال البعض يعتقد أن الربيع العربي موجة ستنحسر غداً أو بعد غد، وهذا النفر من الناظرين للتاريخ والجغرافيا بعدسات مشوشة لا يعرفون أن قوانين التاريخ والجغرافيا لا تعترف بالتراجع والعودة، بل تذهب بعيداً في متوالية صعودها الصاعق، وعندما تعيد إنتاج الماضي فإنها تعيده أو تستعيده بطريقة ملهاوية ومأساوية في ذات الوقت، وتلك إشارة لمعنى التطور الذي يأتي ضمن مخاضات عسيرة، لكنها مخاضات تصل إلى نقطة التحول المؤكد. بهذا المعنى يمكن القول إن الربيع العربي لا يقدم لنا تلك الصورة الزاهية المقرونة بالتسمية الأوروبية المتفائلة والمنقولة من «ربيع براغ» الشهير، ولكن ربيع العرب يكتسي طيوف الألوان المختلفة، ويمازج بين أشكال التحول المتاحة، ويسافر في مدى الخصوصية «العربسلامية» الراكزة في طبيعة الثقافة السائدة تاريخياً، وهي شئنا أم أبينا ثقافة غنائية تجريدية موصولة بقدر كبير من العدمية. الذين يبررون طغيان هذا النمط الثقافي الغرائبي يلهجون باسم الخصوصية الخاصة، والجماعة الاصطفائية المفارقة لبقية الأقوام. تلك ليست مثلبة العرب الممهورين بثقافة ميتافيزيقة ما أنزل الله بها من سلطان، لكنها أيضاً صفة ترافقت مع بلايا التعصُّبات الفاشية والشوفينية والعرقية والدينية، مما كان مشهوداً في أوروبا العجوزة، وما كان لأوروبا أن تتخلّص منها بسهولة، ولقد تمرغت القارة الأوروبية بجمرة البلايا والحروب الدينية والقومية، وصولاً إلى محنة الحربين الكونيتين اللتين طهرتا الذاكرة والجسد الأوروبي من كافة النظريات العرقية والشوفينية والاصطفائية الدينية. الربيع العربي سيأخذ مجراه بطرائق واحتسابات يعرفها التاريخ ، وتعرفها القوانين الموضوعية التي تسخر من رغباتنا وأوهامنا الإرادوية، وعليه.. فإن من يقاوم هذا المد سيعرف عاجلاً ام آجلاً إنه تيار لا مرد له. يجدر بنا قراءة التاريخ بعدسات منفرجة، والنظر لما يجري من نماذج وارتكاسات من منظور القوانين الموضوعية التي تنبع من حقيقة واحدة ومؤكدة .. حقيقة أن التاريخ لا يعود إلى الوراء البتة. [email protected]