عندما وقّعت الأطراف السياسية اليمنية على المبادرة الخليجية، وآليتها التنفيذية المزمنة، لم يكن من الغريب أن يتحفظ كثير منا عن إبداء مشاعر الارتياح أو التفاؤل بما آل إليه الحال، لأسباب كثيرة، لا مجال لذكرها جميعاً هنا.. بيد أن واحداً من أهم تلك الأسباب يكمن في معرفتنا الوثيقة لكثير من مكونات وأطراف المعارضة، وإحساسنا لسوابقها الكثيرة أنها لن تتجه بحسن نية إلى تنفيذ كل ما ورد فيها من بنود، ربما باستثناء استعجال تلك التي سترتب لها مزايا، أو تمكنها من حصد المكاسب المادية والسياسية العاجلة، ولم ننتظر كثيراً حتى حدث بعض ما توقعناه. فقد كنا نتوقع أنها ستلعب على ثلاثية معروفة لكل متابع لشئون المعارضة اليمنية، ونعني: لعبها على التناقضات وعدم الانسجام بين مكونات اللقاء المشترك وغياب رؤية موحدة لديها جميعاً، أو ما يمكن أن نسميه “لعبة تبادل الأدوار” إضافة إلى عدم توقيع بعض مكونات المشهد الاحتجاجي أو الثوري “الحراك الجنوبي، والحوثيين، والشباب غير الحزبيين” على تلك المبادرة، ما يعني لها سهولة الانقلاب عليها دون حرج أو مساءلة قانونية، وكذا تناقض المواقف الدولية والدعم الخارجي للمبادرة، ما يمكنها من الحصول على التأييد والدعم في كل الأحوال. الشاهد على ذلك، أن سرعتها فاقت سرعة الضوء والصوت معاً في الأيام الأولى لاستعجال تنفيذ البنود المتعلقة بنقل الصلاحيات من فخامة الرئيس لنائبه، ومبادرتها بتشكيل “حكومة الوفاق” كما استعجل بعض “وزرائها” الإفصاح عن نواياهم وأحقادهم وأحلامهم، وقاموا بممارسة مهامهم حتى قبل صدور موافقة مجلس النواب على البرنامج الحكومي، وشرعوا في التعامل مع “خصوم” الأمس عبر ممارسات “الإقصاء، والتهميش، والإيقاف عن العمل، أو تغيير أطقم العمل كاملة” متناسين أنهم لم يعودوا يمثلون أنفسهم أو أحزابهم، لكنها أحلامهم، وسوء نواياهم صورت لهم مشروعية أو قانونية ما قاموا به، حتى تطاولوا على كل شيء، في غياب الإحساس بالمسئولية، وعدم خشية المساءلة. نفس هذه الأطراف كانت أقل سرعة عند لحظة تقديم مشروع “قانون الضمانات” إلى مجلس النواب؛ حيث تنص المبادرة الخليجية على أن: “يقر أعضاء مجلس النواب بمن فيهم المعارضة، القوانين التي تمنح الرئيس ومن عمل معه خلال فترة حكمه، الحصانة من الملاحقة القانونية والقضائية” بل قدمت معه مشروعاً بديلاً تحت مسمى “قانون الصلح العام” حتى تضمن عدم ملاحقة كل المتورطين في جرائم القتل والتفجير لمسجد دار الرئاسة، وكل من استهدف الجنود والمدنيين خلال مرحلة الأحداث، ممن تتوافر أدلة وبراهين دامغة على تورطهم في تلك الأعمال.. كما كانت أقل اندفاعاً وجدية في مساعيها لإعادة الحياة إلى طبيعتها، سواء بإعادة التيار الكهربائي الذي حرمنا خلال مدة الأزمة من متابعة أعمالنا، أم بضمان أمن الإمدادات النفطية والغازية لأبناء الشعب اليمني، أو بإزالة مظاهر التسلح ونقاط التفتيش داخل مناطق العاصمة، وغيرها من المدن، وهي الوعود التي سبقت تولي عدد من وزرائها مناصبهم. ولعلم بعض تلك الأطراف أن الاتفاقية ترتب عليها التزامات قانونية أمام الخارج، ومعرفتها أن القوانين النافذة داخلياً تحد من تصرفها وحريتها في إمكانية تحقيق كل ما كانت ترجوه من وراء خروجها إلى الشارع، وركوب “موجة الثورة الشبابية” ونقصد قدرتها أو رغبتها المريضة في “اجتثاث” ما تسميه “بقايا النظام وأنصار الرئيس”، لجأت إلى الخيار الآخر المتمثل في العودة إلى سيناريو الاحتجاجات “الشعبية” المخططة هذه المرة، وهي شبيهة بتلك التي حدثت في مصر، باختلاف التوقيت وأدوات التنفيذ، وتغير المكان، والأسباب الداعية لها، في محاولة محمومة لتقويض تنفيذ جميع بنود تلك المبادرة، وتأخير تنفيذ ما ترتبه عليها من التزامات وواجبات لتهيئة الأوضاع لنقل السلطة عبر آلية الانتخابات التي ظلت ترفضها، وفي محاولة يائسة، وربما أخيرة منها لإزاحة بعض خصومها من أنصار الرئيس والنظام اليمني، علها تعيد ترميم علاقاتها المتداعية مع الشباب في الساحات من غير أنصارها، أو تزيد من أعداد مؤيديها في أوساط تلك المؤسسات باعتبارها المدافع عن حقوق العاملين فيها. ولذلك، اعتمدت أسلوب خلط الأوراق لخلق الأوضاع الملائمة لتنفيذ تلك الأماني، باستهداف كثير من المؤسسات التي نعتقد أنها كانت قد حددتها “سلفاً” فيما أسمته “القوائم السوداء” ليس لأسباب تتعلق بالفساد المالي والإداري، كما تدّعي تلك الأطراف دون أدلة في كثير من الحالات، وهذا ما كنا نرجوه جميعاً، وإنما لأسباب أخرى ستتضح خطورتها وملابساتها مع مرور الوقت. لسنا ضد منافحة الفساد ومحاربته داخل جميع المؤسسات والمرافق الحكومية، ولسنا ضد إقالة كل مسئول “يثبت بالدليل القاطع” تورطه في واحدة أو أكثر من قضايا الفساد واستغلال المنصب الحكومي، أو التلاعب بالمال العام، وقد كنا دوماً من الداعين للقضاء على منظومة الفساد أينما وجدت.. لكننا ضد أن تغدو المسألة “مزاجية أو انتقائية”، و“عدائية أو انتقامية”، و“بذيئة مجردة من كل القيم والأخلاقيات”، و“إقصائية”، و“منلفتة من كل قانون”. نقول هذا الرأي، ونحن واعون تماماً أن كل فعل سيكون له مستقبلاً رد فعل معاكس قد يكون مساوياً له في القوة ومضاداً في الاتجاه.. ونخشى أن تغدو هذه الوسيلة مستقبلاً سبباً في إزاحة كثير من القيادات الوطنية لأسباب لا علاقة لها بالفساد، أو بشبهة اللعب بالمال العام، بقدر ارتباطها بثأرات قديمة، أو بتصفية حسابات شخصية، أو قبلية، أو تنفيذاً لأجندات حزبية، ... إلخ. ولذا نعتقد أن الجهة الوحيدة التي لها الحق في الإقالة أو تقديم الناس للمساءلة والمتابعة هي الجهات القضائية، عبر مكاتب النيابة العامة، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وهي الجهات التي خولها القانون هذا الحق، ويبقى المبدأ الذي يحكم كل تلك التحركات هو: “كل متهم بريء حتى تثبت إدانته”. ولا بأس في أن تقوم مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته المختلفة، والجماهير بدورها في فضح كل فاسد، أيا كان انتماؤه أو منصبه، ورفع كل ما تملكه من أدلة ووثائق إلى الجهات القضائية، أو نشرها عبر وسائل الإعلام المختلفة في حال عدم اتخاذ القضاء الإجراءات الضرورية ضده، ولنستخدم جميعاً سياسة “العزل الاجتماعي” لكل فاسد، فهي الوسيلة الأنجع في إعادة الاعتبار لكل القيم والأخلاق التي نشكو جميعاً غيابها، أو تغييبها.. والعبرة بحسن النوايا!!. (*) جامعة إب