إن صناعة التاريخ عملية إنسانية صرفة يشترك فيها كل فئات المجتمع, لاتقتصر على النخب والقيادات والمناطق والشلل وبعض التجمعات, إنها ولادة وطن ويقظة شعب وعزيمة أمة, لاتختزل في أشخاص بعينهم أو تُبروز في إطار أو لوحة الزعيم. المُزارع البسيط الذي يقف خلف محراثه يشق الأرض بصبر ومدافعة, راهن على إحياء(الكفل) أو الفوز ب(الكفن) هو يصنع التاريخ بكل أبعاده, مثلهم ترك محراثه ليلتحق بمسيرة الحياة أراد أن يستكمل كتابة التاريخ اليمني المتعب على طريقته في غرفة رقم(601) فوق سرير متهالك في المستشفى الجمهوري بصنعاء الأسبوع الماضي كاشفاً عورة الفساد الذي لم يرحم المرضى ولن يسلم من سرقه وقبحه وشره الموتى, ذهب قاسم علي المغلس إلى العاصمة صنعاء ليرمي بحذائه في وجه الفساد, عادت جثته إلى وادي الأشروح بقدّس, بقيت أحلامه وأوجاعه في العاصمة لتواصل المشوار على طريقة جده سيف بن ذي يزن. التاريخ يصنعه بسطاء النخب, المدنيون والعسكر الفقراء والمليارديرات, المشايخ والمهمشون, المهنيون والمثقفون الصامتون والمطبلون, الساسة والنخاسون, حتى أولئك الذين يبتاعون ويشترون بالبشر والوطن, بالأرض والعرض يصنعون التاريخ على طريقتهم, لا أحد يستطيع احتكار صناعة التاريخ أو الحيلولة دون شراكة الآخرين في ذلك المشهد والحدث التغييري الإنساني الكبير. صناعة التاريخ مراحله صعبة وشاقة, مسؤولية كبيرة, التزام أدبي وأخلاقي في القول والفعل, ضبط السلوك وكبح جماح(الأنا) وإحساس صادق تجاه المجتمع , عقلانية موضوعة في التعاطي مع خطوات البناء والتنمية البشرية والمؤسسية. الميليشيات المسلحة لاتصنع التاريخ بل تحيله إلى محرقة كبيرة تلتهم الأرض والإنسان, الشباب اليمني في ساحات الاعتصامات صنع تاريخاً جديداً لليمن الثورة والدولة, الأهم من هذا كله ألا نترك هذا التاريخ للبندقية وأقطاب المصالح لينحرفوا به إلى المحرقة السالفة الذكر, علينا أن نحمي هذا التاريخ الجديد من عبث المشيخات وسطوة وتسلط العسكر حتى يبقى مدني الثورة والدولة والمنهج والسلوك والخطاب. لايمكن لطرف بعينه أن ينفرد بصناعة التاريخ حتى وإن استحوذ بالشعارات أو الساحات أو المنابر والأرصدة والتبرعات ومودة ذوي القربى, وهبات الجيران ومباركة السفارات ذات القدرة والقوة والجبروت, التاريخ يصنعه الجميع على اختلافهم وعداواتهم لأنه عنوان بيتنا الجديد. الخطيب المفوه الذي يعتقد للحظة أنه يصنع التاريخ بعبارات الإقصاء والتحريض وإثارة غبار الفتنة والحرب واستصناع لوحات الدماء والأشلاء ثم يختم ذلك الخطاب الأسود بدعوات السحق والمحق والإفناء وتحويل تلك المجازر وحمامات الدم إلى غنائم له ولمن شاركه ذلك الشعور موهوم بصناعة التاريخ, إنه لم يكن أكثر من صانع أكفان وحفار للقبور وإن قيل عنه خطيب مفوه وبليغ. إن الخطاب الذي تتطلبه صناعة التاريخ هو خطاب الرحمة والتسامح والألفة والاعتصام, الخطاب الذي يوجه المجتمع إلى البناء والتنمية والشراكة, يدفع بالمجتمع إلى النزاهة ومحاربة الرشوة والمحسوبية والاستغلال واحترام الوقت والعمل, يشجع المجتمع على التخلص من اللامبالاة في العمل وأداء الواجبات, الخطاب الذي يحث الشرفاء في كل مؤسسة وطنية ليكونوا القدوة والنموذج الرائع في الالتزام وأداء الواجبات الوظيفية وعدم التسيب في الدوام الوظيفي أو استغلال الوظيفة. صناعة التاريخ تحتاج إلى خطاب جديد ليس فيه آثار للحقد أو الكراهية, مترفع عن تلك الآثام عظيم بعظمة اليمن الأرض والإنسان, حتى تصبح صناعة التاريخ ماركة مفتوحة اليمنيون جميعاً فيها شركاء نجاح وبناة وطن لامكان فيه للقهر أو الإقصاء.