يريد جماعة أنصار الشريعة بناء يوتوبية وهمية، قائمة على تصور مجتمع قديم، لم يكن موجوداً، سوى في تصوراتهم. تيار لا يعترف سوى بإسلامه الخاص. في شريطه التسجيلي حاول أحد قيادات أنصار الشريعة طارق الذهب، تفنيد شعار الحوثي “الموت لأمريكا وإسرائيل”، وكأنه امتياز يخص جماعته. وبالتالي سيؤكد كل طرف هذا الامتياز، بالنيل من مصداقية الآخر، وكأن الموت هو الوجه الملائم لتسوية دينية مع العالم. لا يكتفي خطاب أنصار الشريعة، بأن يستأثر وجه الموت ضد العالم الغربي، بل يثيره نحو مذهب إسلامي آخر، الاثنى عشرية الشيعية، باعتبار أن الحوثية، كما يصف، لم تعد تمت للزيدية بصلة، بل مرجعها إيراني خالص. يدعم هذا الخطاب الوجه الأصولي المضاد، يمنح الحوثيين مبرراً لتقوقعهم كأصولية، وينعشهم ضمن وجه طائفي. آخر ما نحتاجه: نبش صراع مذهبي واسع، لن ينتج عنه سوى مجتمع إسلامي منهك، ومهلهل، أكثر مما هو عليه. من ورائه تقف مصالح هيمنة سياسية غربية، واقتصادية. ما طبيعة مشكلتنا الحقيقية، هل يتعلق الأمر بنوع تديننا، أو نوع نظامنا السياسي. تثير كثير من الأسئلة ضجري، فمثلاً هل نستطيع مواجهة إمبراطوريات المصالح، بتصلب مجموعات، تظهر بشعور كثيفة، من ورائها سلاح مصنوع في الغرب، وتعتقد أنها ستنال منه. في الواقع، استفحال هذا النوع من التفكير يعيدنا إلى ما قبل الحضارة؛ مجتمع بداوة هش، يسهل الهيمنة عليه. حتى أنه لن يواجه بأي مقاومة فعالة كما حدث في أفغانستان. كلنا ندرك أن هذا النوع من الصعود للتيارات الأصولية، يمكنه فقط جلب تدخل أوسع للخارج. ماذا فعلت الأصوليات قبل ذلك، سوى الخراب الذي أنتجته وحروب لا تنتهي. هل ذلك ما نحتاجه، أو أننا بحاجة لتوفير خدمات صحية، وتعليم أفضل. أليس ذلك ما نستحقه؟ وليس خارطة أصوليات تقتحم علينا شكل أفكارنا. لنتصور هذا المحيط السياسي المضطرب الذي تنمو فيه أصوليات حقيقية، ماذا يمكن أن تصنعه مواجهاتها. في حجة، تثير حروب الحوثيين التوسعية حالات نزوح. النتيجة أننا سنتحول إلى مجتمع يتكون من محاربين، وغير محاربين. ثم نفترض طريقة نجاة وحيدة، الهرب بحثاً عن ملجأ. هنا سنضيف مجتمع مشردين، ومجتمع فارين (لاجئين). أصوليات جاءت نتيجة حكم أنظمة فاسدة. وسيناريو مريع لما يمكن أن ينتجه تصلبها وصراعاتها. هناك حشد هائل من التكتيكات لنشر حرب مذهبية، يبدأ الآن كاستهلالة فقط. لكن إذا كانت إيران دولة علمانية، هل ستبرر وجود حرب تحت دواعٍ دينية، في عهد الشاه كانت ستأخذ طابعاً قومياً، أو وطنياً. إذا كانت الحوثية حركة سياسية مدنية، وهذا غير ممكن، بالتأكيد لن تبرر حدوث معركة مذهبية، ينطبق الأمر على السلفية. حتى لو أستخدم أي طرف أصولي منهما، نفس أدوات خطابه الحالي، ستتحدد معايير أخرى. لا أريد النيل من جماعة كمذهب ديني أو فكري، الأمر يتعلق بعلاقة متبادلة من أدوات التضليل. يمارس كل طرف تضليلاً يستمد وجوده من الفتك بالآخر. تحت مستوى واحد من المسميات، يعلن حرباً مقدسة، جهاداً، يتسع كفعل استئصالي شره يعم عدداً غير محدود من الضحايا، نتيجة هوية خادعة، وبالتالي يستمر هذا الفعل المتطرف بإنتاج نفسه من وجود الآخر. في لبنان أنتجت الحرب الطائفية هذه المستويات التضليلية، وبدأت تتشكل مسميات مختزلة؛ ماروني، سني، درزي، شيعي، وغيرها.... جنون جرف معه خارطة أثقل من احتمالية وطن. دوامة خرج منها لبنان منهكاً، بنفس طوائفه؛ ذكريات مريرة من الأشلاء بتكوين سياسي هش، وديمقراطية مفتعلة تشكلها خارطة طائفية. تحت رمادها تضعضعت كل التيارات السياسية اليسارية والتحررية، لصالح واجهات سياسية طائفية. هل كانت تلك البداية لنعترف أن سيناريوها كبيراً يحاول إثارة هذا النوع من الصراع الطائفي الواسع في المنطقة. صورة مصغرة تحاول التشكل في اليمن، وجهاها صراع إيراني- سعودي، بمرجعية شيعية- سنية. صورة عميقة لصراع مذهبي، يمكن تفاقمه حولنا مثل انتفاخات سرطانية. عند إثارة صراع ديني سني- شيعي، سيكون حتماً على طرف القضاء على آخر، تحت لواء حرب مقدسة. تستمر حرب بلا أفق، لا ينتصر فيها أحد. مجرد أشكال دمار تنبت في كل مكان. تستعير كل الأصوليات شكل تشريعاتها الدينية من تصوراتها المغلقة. يتحول انغلاقها إلى شيء خلاق لتوليد الأحقاد، إزاء كل ما يخالفها. هناك فقط درجات متفاوتة، السلفية، الحوثية.. وبصورة أقل الإصلاح، إذا افترضنا وجود وجه سياسي مثقل بتيار أصولي داخله. لنرى تصلب إيران السياسي، في المقابل اقتصاد ضعيف. هذا أفضل ما يمكن لحكم العمامات تقديمه. الأصوليات مشاريع بلا أفق، مهما تفاقمت، لا يمكن بقاؤها. لكنها تهدد حياتنا، تضللنا بقدر استطاعتها لفرض آلتها التدميرية.