وهبناك الدم الغالي.. وهل يغلى عليك دم؟ أستحضر صدى أيوب الآن، وهو يصدح على منصة ساحة التغيير بصنعاء، مختلطاً بأصوات العويل في أسوأ يوم شهده مواطنون خرجوا للبحث عن التغيير بأثواب الجمعة البيضاء، وليس لديهم من سلاح سوى أفواههم الصارخة بنداء التغيير السلمي. حين ظهر المقطع المصور لرئيس البرلمان يحيى الراعي، وهو يكشف التخطيط للمجزرة، كنت أعتقد أن شيئاً من الآدمية ستجعله ينسحب ويختفي من الوجود، بعد أن انكشف أمره، لكن ظلم التوافقات السياسية وحكم الفرد هي من جعلت شخصاً كيحيى الراعي يفلت من العقاب، ويظل رئيساً للسلطة التشريعية العليا في البلاد. حين يمر عام على جريمة كمجزرة “جمعة الكرامة” دون أي تفكير في الجاني من قبل الأطراف الدولية هو تواطؤ مع القاتل بكل المقاييس، قبل الناس بالمبادرة؛ لأنها ستنزع الرجل من مكانه، لكنها نزعته من فوق الكرسي إلى تحت الكرسي، ليظل يمارس هوايته المفضلة بالعبث في دم شعب كامل. ما الذي بقي للرجل بعدما فعل في “جمعة الكرامة”، وبعدما نزع من كرسيه سوى أن يذهب إلى أبعد مكان لا نراه ولا نسمعه فيه؟، سمعناه 33 عاماً، ولم يكتفِ بتلويث آذاننا.. يكفينا الآن ألم الدم والدمع الذي سفكه منذ 18 مارس العام الماضي. ليس لعلي عبدالله صالح خيال واسع، فقط يمكنه التفكير لو أن أحداً ممن ذهبوا في جمعة الكرامة هو “صلاح”، أو “خالد”، أو حتى “أحمد”، ليتأمل فقط قليلاً، وينظر ماذا كان سيفعل؟.. لم يعتدِ الرجل على التضحيات الجسيمة أساساً، لم يفقد عزيزاً، ولم يخسر طوال فترة حكمه، حتى الهجوم على دار الرئاسة كان مكسباً له بقدر ما كان خسارة للبعض ممن قتلوا أو جرحوا وبترت بعض أعضائهم، لذلك لا يشعر الرجل بآلام الخسارات.. الأسوأ أنه يفكر أنه هبة الله لأرض اليمن، وأن نزعه من الكرسي هو معاندة للقدر، بينما في الأساس لم يعد قدراً، بل شر مستطير؛ لأنه تجرأ على دمائنا، ودمّر تعز، وأهلك الحصبة، ووزع دم الشباب حصصاً على المحافظات. بعد كل هذا يظهر ليطالب بشروط جديدة، وكأنه بقي له شيء، ربما بقي أن نجهز له ملفاً مصوراً بالأرواح التي أزهقتها آلة حربه.. ليتأمل جيداً في الصور، لشباب وسيمين، ورجال يمتلئون بالرجولة والتضحية، ليتأكد أنه كان ولي أمر أفسده طول بقائه، فهانت عليه دماء الناس وأرواحهم. شهداء الديمقراطية لم تعد تسمية محترمة؛ لأن الرصاص غير ديمقراطي، وهذا ما لم يدركه الرجل، هو كان يعتقد أنه ديمقراطي بطريقته ورصاصه وحذاقته في الاستحواذ.. ماذا سيصف - مثلاً - بيع ميناء عدن لموانىء دبي؟ ديمقراطية اقتصادية مثلاً!. لنذكر الرجل أن الدماء التي سفكها هي من فعلت به ما فعلت بحماقات رصاصه، لكن الرجل مازال يراوغ حتى اللحظة، لكنه استعجل الرحيل برغم أن استعجال الناس كان أكثر، وليعلم اللاحقون منذ الآن أن “الثورة تولد من رحم الأحزان”، وأن الدم يصنع الحرية ولا يقتلها.. دم “جمعة الكرامة” ذهب برأس صالح، وسيبقى عليه الذهاب ببقية الرؤوس التي مازالت متعطشة للدم، لا يورث الدم غير الحق، ولا يخلف الدم غير النصر، ولا يترك الدم خلفه سوى صورة الكرامة بكامل بهائها. سيكون على الحكومة الآن عبء أسر شهداء التغيير الذين أسقطهم رصاص ولي الأمر، هو عبء كبير، لا شيء يضاهي تقديم الأرواح، أقل القليل على الحكومة أن تمنحهم شيئاً مما كان يأخذه أولاد المسؤولين من النظام السابق، وأن يحصلوا على منح دراسية محترمة وحياة كريمة؛ كي يشعروا أن أرواح من فقدوهم لم تكن مجرد لعبة بيد الأطراف المتصارعة.. ليتذكروهم الآن قبل كل شيء؛ كي لا يجف دمهم ثم يبدأون بالبحث عن لقمة كما كان يبحث المصابون من الجنود المحاربين في صعدة وغيرها.