بعيداً عن دهاليز السياسة وإرهاصات الحكم وقوالب التعيينات تلوح في الأفق ثورة داخلية قلّما عزف عنها الكُتاب، وأضحت حاجة ملحة للتحدث عنها بعد نسيانها والانشغال بقضايا خارجية قبل إصلاح العود المعوج. هذه الثورة الداخلية لابد من أن ترى النور القادم من قيم الإيجابية والمسؤولية المتأسسة على التقوى من أجل بناء الدولة المنشودة وإنتاج جيل قادم يواصل السير في عمارة الأرض ويحمل الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان. إن هذه الثورة تتمثل في إقامة الأسرة المسلمة؛ لأنها مكان نشوء الأجيال، وعلى قدر ما تكون الأسرة يكون مستقبل الأمة، و”كل مولود يولد على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” كما جاء في الأثر. إن كثيراً من الحضارات السابقة قد اندثرت؛ بسبب اختلال نظام الأسرة، وما حضارة اليونانيين القدماء عنا ببعيدة؛ عندما كان اللقاء بين الرجل والمرأة لإشباع غريزة الجنس أمراً عابراً، وجُلّنا يعلم كيف سقط الرومان من قمة مجدهم عندما اعتبروا الحياة فرصة للمتاع واتباع الشهوات. وإذا عدنا إلى واقعنا اليمني فسنلاحظ أمراضاً أسرية بدأت تزحف نحو زحف الرمال ولا نستطيع حصرها، بل سنذكر أهم هذه الأمراض التي فرضها الواقع عند بعض الناس ونخاف أن تسيطر على الآخرين ومنها: غياب رب الأسرة عن منزله أوقاتاً كثيرة ولا يعلم كيف حال أسرته وحال أولاده ومع من يسيرون؟ والاستهتار بروابط الزوجية الذي دمّر عواطف الأمومة والرجولة على حد سواء، ومنها التقصير في الحقوق والواجبات، ومنها الغيرة المذمومة التي تعني سوء الظن وفقدان الثقة بين الزوجين، ومنها عدم تحمل المسؤولية والأمانة، ومنها غلاء المهور، وعدم اختيار المرأة ذات الدين والخلق، وفوق هذا كله عدم سيادة حدود الإسلام وآدابه في كل مراحل إقامة البيت المسلم في الخطبة وعقد القران وإعداد بيت الزوجية والزفاف ناهيك عن العادات والتقاليد الفاسدة القديمة والمستوردة.. إن كل هذه الأمراض وغيرها تصيب خلية الأسرة في مقتل؛ فبدلاً من أن تكون أسرة منتجة يتربى فيها النشء ويتشكل تصبح أسرة محطمة تنتج جيلاً متخلفاً ”كالأنعام أو هم أضل”. وللقضاء على هذه الأمراض لابد من ثورة تقوم على الالتزام بالإسلام عقيدة وأخلاقاً وعبادة ومعاملات، لابد من ثورة “خيركم خيركم لأهله”، لابد من ثورة ثقة متبادلة بين الزوجين، لابد من ثورة زواج قائمة على الأمانة والمسؤولية والعبادة والمشاركة والتعاون والشورى، لابد من ثورة الأسرة القدوة، لابد من ثورة “اتقِ الله فينا ولا تطعمنا إلا الحلال الطيب”، لابد من ثورة «وجعل بينكم مودة ورحمة» لابد من ثورة نبراسها حديث المصطفى “صلى الله عليه وسلم”: ( أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً). إذا كانت ثورات الربيع العربي قد أنتجت شعارات بداياتها الشعب يريد... فإن ثورة القيم تقول: حتى لا تغرق سفينة الأسرة في بحر لجي يزخر بالفوضى والاضطراب فإن الأسرة تريد:زوجاً مسلماً يقوم بواجباته نحو بيته كما حددها الإسلام متعهداً أولاده في كل وقت وحين. تريد زوجة مسلمة تجعل من بيتها نوراً وراحة وطمأنينة، معينة لزوجها على طاعة الله، وجنة يستروح في روضاتها من عناء الكفاح. تريد أماً مسلمة ترعى أولادها وتنشئهم على الإسلام وآدابه وتكون نعم المدرسة الفاضلة. تريد ابناً مسلماً وابنة مسلمة يعبدان ربهما ويبران آباءها وأمهاتهما ويختاران صديق الخير والصلاح ويبتعدان عن صديق السوء، ولا يسمعان إلا الخير ولا يقتديان إلا بالرسول الأعظم محمد “صلى الله عليه وسلم” ومن كان قدوة حسنة في المجتمع. تريد بيتاً مسلماً يرعى صلة الأرحام ويهتم بذوي القربى ويؤدي حقوقهم، ويحسن معاملة الجيران ويؤدي حقوقهم، يكون قدوة لغيره في الأخلاق وتحري الحلال والتزام السمت الإسلامي في عاداته وتقاليده، منارة تهدي الحيارى حوله ويبدد لهم الظلام من حولهم وينير لهم الطريق، يفضل القنوات الفضائية الجيدة ويبتعد عن الهابطة منها.. تريد مجتمعاً مسلماً يعرف حقيقة إسلامه وكيف يحل قضاياه على نور وهدى من الله ورسوله “قائماً بالقسط”، داعياً الله تعالى: “ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً”. [email protected]