إن مايحدث اليوم وفي كل يوم في عالمنا العربي من جرائم ترتكب بحق الإنسان كإنسان لا يمكن أن يتصورها عقل بأي حال من الأحوال ، مهما بلغ حجم الأسباب التي تتخذها أنظمة الموت والفناء كحجة ومبرر لإرتكاب مثل تلك الجرائم المحرمة حتى من الخالق تبارك وتعالى ، وليت الأمر كذلك فحسب ، بل وتمنح هذه الأنظمة نفسها الحق المطلق علانية للقيام بكل هذا الجرم الشنيع ضد الإنسان من باب الحق الشرعي الممنوح لها من باطلها المبُطن بكل أنواع الرذيلة ، والذي يسمح لها بإحداث كل هذا الذنب و الإثم العظيم تحت البند المسمى في قانونها : أننا نقوم بحماية الإنسان ، ونحقق له الأمن والإستقرار ، وندفع عنه الأيادي الخفية التي تستهدفه على الدوام .... لذا فإن أفضل طريقة نقوم بها وفق القانون الذي نصصنا كل مافيه من بنود ؛ هو أن نقوم بفعل كل الجرم المتوقع وغير المتوقع الذي يؤدي إلى موت الإنسان مقتولاً أبشع القتل بأيدينا لكي ينجو بنفسه بالفناء الشرعي من أيادي الموت الخفية التي تستهدفه باستمرار ، وتجعله مضطرباً في هذه الحياة ، ولا ينعم بالاستقرار فيها . هذه الأيادي هي في الحقيقة أياديهم الظاهرة القذرة الملطخة ببراءة البشر وسلمهم وأمنهم . لقد كانت ثورات الربيع العربي التي قامت في يومنا هذا من أجل الحرية والكرامة للإنسان ، ومن أجل بعثه وعودته الحقيقية للحياة من جديد هي الخيار الأخير للشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها ، والتي عاشت ردحاً طويلاً من الزمن تحت طائلة الظلم والإستبداد والقمع من قبل هذه الأنظمة الدموية التي زرعت فينا فلسفة القبول بالموت ورفض الحياة ، ومجدت في لغتنا كل المفردات التي تعمل على بقائهم حكاماً علينا وإلى الأبد ، وجعلت الذل والخوف والمهانة نشيدنا الوطني الذي صرنا نكرره في كل وقت وحين حتى لا ننسى تقزمنا أمامها ..... الأمر الذي أسهم بدوره في موت الفكر الإنساني الفاعل للشعوب التي رضخت بإرادتها للمنهجية الفلسفية لأنظمة الفناء العقيمة وقبلت بموت فكرها الجماعي الكلي الذي يشكل هويتها ويمنحها التعريف كما يمنحها الوجود الحقيقي في هذه الحياة . وهذا لايعني بالضرورة أنه لم يكن هناك فكر معارض عبر عن رفضه الصادق لهذه الفلسفة التي تتبعها هذه الإنظمة ؛ إذ تمكن بعضه من التعبير عن رفضه لها ؛ لكن هذا التعبير لم يخرج عن كونه فكر جزئي لم يصل إلى مستوى الفكر الكلي الشامل لثورات الشعوب القادرة على التغيير كما هو الحال في يومنا هذا . المهم في هذا الأمر برمته أننا بثورات الربيع العربي وصلنا إلى اللحظة الحقيقية الفاصلة في تاريخنا ، وفي حياتنا كلها ، وأصبحت الشعوب العربية المظلومة في حتمية المواجهة المصيرية مع أنظمتها ومع كل من يقف من خلفها ملزمة بالإجبار لا بالإختيار على دفع هذا الثمن الغالي والكبير المقدر بحجم غير معقول من الفناء والدمار للأرض والوطن والإنسان .... ولا يختلف إثنان على أن هذه الضريبة الكبرى التي تدفعها الشعوب اليوم إنما هي في الأساس ثمن غياب الفكر الإنساني العربي الكلي الذي ارتضى لنفسه الموت بذاته أو بفعل غيره ، وقبل على نفسه فقط أن يتم تعبئته في علب قابلة للإستخدام متى استدعت الحاجة لذلك ، وقد ظل على تلك الحالة التي كان عليها عرضة للتلف أو الإنتهاء أو الفساد ، أو ربما اقتضت الضرورة إعادة تصنيعه من جديد ليصبح بين ليلة وضحاها إرهابياً وهو الضحية الكبرى للإرهاب .... لقد تم إستخدام الفكر العربي طيلة فترة الموت التي مر بها من أجل تعزيز موته وتجديده على الدوام والعمل على إحياء الآخرين فحسب ، ولم يتم تسخيره لشيء آخر غير هذا الهدف . لكي تكونوا ونكون ، وتعودوا للحياة من جديد فما عليكم سوى التركيز على قضية الفكر الإنساني الكلي والخروج من القوالب الجاهزة للفكر الجزئي العقيم الذي وقف وما زال يقف سداً منيعاً أمام إحداث نقلات تطورية مستقبلية حقيقية في مختلف المجالات بما فيها الإنساني سواءٌ على مستوى الواقع العربي بشكل عام أو على مستوى الواقع اليمني بشكل خاص والذي عاد في هذه الفترة من الزمن إلى الخوض في غمار قضاياه الفكرية الخاصة ساعياً بوعي أو بلا وعي إلى تعزيز تجذرها ومحاولة تثبيتها في العقل والوجدان في مختلف مسارات الحياة ليبتعد بذلك كثيراً عن أهدافه المركزية التي قامت هذه الثورة لأجلها والتي تتطلب من الإنسان اليمني ضرورة توحيد كل الأفكار الجزئية الموجودة في هذا الوطن والعمل على إعادة صياغتها من جديد وفق رؤى منهجية صادقة ترسخ وتؤسس لفكر إنساني جمعي كلي يملك القدرة على نيل كل القناعات التامة ويلقى القبول من الجميع دون إستثناء وقادراً في الوقت ذاته على القيام بعملية النهوض المتكامل وتحقيق البناء الأمثل والراقي لهذا الوطن وللإنسان في المستقبل ..... فإن تم هذا الأمر وأمكن التوصل إلى إنتاج هذا الفكر الذي تفرضه حتمية الثورة الحقيقية الهادفة إلى التغيير فقد سهل بعده كل ما تبقى لنا ولن يكون لنا تعثراً . يجب الإستفادة من كل ما مر بنا في تاريخنا المعمد برحلة طويلة من العذاب والألم والغياب والتغييب وأن لا نقبل بالعودة مرة أخرى إلى الحالة التي كنا عليها من قبل والتي ما كانت لتكون لو جعلنا الفكر الإنساني الكلي الذي يمنح الشعوب هويتها الحقيقية ووجودها الفعلي في هذه الحياة هو الركيزة الأساسية التي نستند عليها في بناء كل مستقبل قادم جديد يمنحنا الاستمرار والتواصل والبقاء الدائم بنفس القوة والحضور الإنساني المؤثر لكننا فقدنا الإنسان وقيمته ففقدنا بعدهما كل شيء .... لا تذهبوا بأنفسكم بعيداً إلى ضلال الفكر الممزق الذي يجعلكم تبتعدون كل البعد عن عودتكم الحقيقية التي وإن بقيتم على ما أنتم عليه فلن تعودوا إليها أبداً .