مما لاجدال فيه أن مظاهر الحياة اليابانية المتصلة بالأخلاق العامة وثقافة العمل والنظر إلى الآخر، وحتى التعايش الحميد بين الطوائف والملل والنحل، صادرة عن مرجعيات دينية وأخلاقية مُتقادمة، ومن الجدير بالإشارة هنا إلى أن الخارطة الدينية اليابانية تجمع ما بين الواحدية والتنوُّع، فالأصل في السائد الديني أنه لا يشبه أديان الشريعة المتعارف عليها، وتبعاً لذلك لا تحل الشريعة الناظمة لتفاصيل الحياة مكانة مركزية في حياة اليابانيين، وليسوا صادرين تبعاً لذلك، عن علمانية نابعة من صدام تاريخي بين الديني والسياسي، وبين الماضي والمستقبل، كما حدث في أوروبا.. الأمر الذي يجعل اليابانيين يسْتقون مفردات الحياة الناظمة للإجتماع والأعراف من خلال التفكير الحر للأفراد، ويكمن السر الأول في ذلك في طبيعة ونوع الأديان السائدة التي أسلفت الاشارة إلى أنها متعددة وموحّدة في آن واحد . وسأقف هنا فقط على الديانتين الأكثر انتشاراً وهما الشنتو والبوذية، وسنرى أنهما وإن كانتا في التصنيف ديانتين إلا أنهما ليسا ديانات بالمعنى المتعارف عليه في ديانات الشرق الكبرى، كالإسلام والمسيحية واليهودية، حتى أننا نستطيع القول بأن الشنتو والبوذية ليستا ديانات أو فلسفات، بل منهج تلمُّس لدروب الحكمة النابعة من العمل والتأمل، والشاهد أن ديانة الشنتو لا مؤسس لها، ولا ترتبط بخارطة طريق معتقدي واضحة المعالم، وبالمقابل فإن البوذية تنبع مما يسمونه الحقائق الأربع النبيلة، وهذه الحقائق تمثل التعاليم التي قال بها المؤسس «بوذا» وهي في جملتها تصب في مجرى توصيف المعاناة التي يتنكّبها الإنسان في حياته، وتدله على الطريق الذي يؤدي إلى التخلص من هذه المعاناة، وصولاً إلى تحقق «أناة» في الكل المحيط به، حتى يصل إلى مرتبة السعادة الحقيقية، فالسعادة بحسب البوذية نابعة من الحرية الداخلية التي تتلخّص في التخلّي والتسلّي، بما يذكرني بقول الصوفي القائل: عليك يا نفس بالتّسلي عليك بالزُهد والتخلّي ويتم تحقيق هذه المثابة من خلال التأمل والعزلة المفتوحة على لغة الكون والطبيعة، مما سنورد تفاصيل عنه في المتابعة التالية. وقبل الاستطراد في استقراء كُنه البوذية أود الاشارة إلى أن الشنتو والبوذيه وجهان لعملة واحدة، فهما يتكاملان ويتقاطعان.. ينفصلان ويتّصلان ، بل إن لهما صلات وشيجة مع ديانة «التاو» الصينية، والكونفوشوسية، وبعض المذاهب والديانات الشرقية. وتتميز ديانة الشنتو بكونها مُنفتحة على روافد المعاني وطرائق التأمل والتفكير والعمل القادمة من أي نبع آخر من خارجها، وهذا ما يفسر لنا التنوّع الكبير في طوائف الديانتين «الشنتنو والبوذية»، مما انعكس وينعكس على المنطق الديني الياباني المُعانق لعلمانية من طراز ياباني . [email protected]