موت رمز الظاهرة الاجتماعية لا يعني انتهاءها قدر ما يؤشر لانبعاث جديد لها أكثر قوة وضراوة.. حدث ذلك قبل ما يزيد عن ألفي عام حينما خبى أوار المسيحية بعد صلب المسيح لفترة قصيرة، لتصبح بعد مائتي عام فقط الديانة السماوية الأولى في العالم ..، فيما كان مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما الشرارة التي جعلت شيعة آل بيت رسول الله تزداد قوة وإحكاما ، لتتكون طائفة دينية هي الثانية في العالم الإسلامي. هل كانت هذه الحقيقة ماثلة أمام ناظري حسين بدر الدين الحوثي عندما قاد مجاميعه الصغيرة المسلحة في حرب شرسة ضد الدولة ليلقى مصرعه ذات نهار قائظ في ذلك الصيف الدامي الحزين من العام 2004م ؟!! حينها تناقلت وسائل إعلام عديدة صور الجثة المسجاة بأطمار رثة تخثر الدم عليها ، من أحد كهوف مران الوعرة.. ممزوجة بهالة إعلامية وتهليل صارخ على أن الحركة انتهت بمقتله.. وبعد أن كانت تسيطر على مديريتين أو ثلاث في صعدة فقط، صارت تسيطر على محافظة بأكملها وبعض مديريات في ثلاث محافظات أخرى .. فضلا عن مناطق عدة وجيوب متفرقة في محافظات شتى... وعينها لازالت ترقب بشراهة توسعات أخرى جديدة. الحركة الحوثية تستند الى موروث إسلامي ، يعارضه قطاع كبير من المواطنين ، إذ ترتكز على اجتهادات فقهية تتماهى مع الشيعة الإثني عشرية وتكاد تخرج عن الزيدية حيث ينبغي ان تكون ممثلة لها.. إذ أن بدر الدين الحوثي والد حسين ، وهو بالمناسبة المؤسس الفعلي للحركة الحوثية لا ابنه حسين.. كان لا يزال يعتقد أن الولاية لا تجوز إلا في البطنين حصرا، الحسن والحسين ، سبطي رسول الله ، ، أفصح عن ذلك في حديثه لجريدة الوسط اليمنية قبل سنوات قليلة، مخالفا بذلك لا الفكر الزيدي الذي يرى جواز ولاية المفضول على الأفضل وان لم يكن من آل البيت، إنما أيضا بعض مجايليه من مفكري وعلماء الزيدية.. كالعلامة ابراهيم بن علي الوزير ومجد الدين المؤيدي وهما من علماء الزيدية الأعلام ، الذين لهم اجتهاد مغاير يقضي بأن شرط النسب الهاشمي لم يعد ملائما للعصر ، وان كان حدث سابقا فلظروف تاريخية، ويريان صحية ولاية غير الهاشمي .. يقول الدكتور قاسم سلام وهو احد أقطاب حزب البعث العربي الاشتراكي في حديث صحفي: ان بدر الدين الحوثي سبق أن ادعى الإمامة في عهد الإمام يحيى وبويع وتم سجنه، وادعاها أيضا بعد ثورة سبتمبر 1962م وقاتل الجمهورية في صعدة .. ويعتقد الدكتور سلام ان الحوثية الآن دخلت طورا جديدا باتخاذها صعدة مركزا للمذهب الصفوي الحاقد على الأمة وعلى الإسلام.. وهو تحامل غير مبرر على الحوثية ولا نجد ما يسنده ، ولا سبيل لإقامة الدليل عليه. الحوثية كفكر لا تستند فقط الى موروث إسلامي هو محل اتفاق واختلاف جمهرة المسلمين، بل أيضا تستدعي موروثا تاريخيا موغلا في القدم ربما عده البعض من باب الأساطير والمرويات التي لا تجد من يدعمها .. في كتابه ( عصر الظهور) يؤكد مؤلفه علي الكوراني العاملي، ورود أحاديث متعددة عن أهل البيت، تؤكد حتمية حدوث ما يصفه الكتاب ب“ثورة اليمن الإسلامية الممهدة للمهدي عليه السلام، وأنها أهدى الرايات في عصر الظهور على الإطلاق. أما قائدها المعروف في الروايات التي أوردها الكتاب باسم “اليماني”؛ فتذكر رواية أن اسمه حسن أو حسين، من ذرية زيد بن علي، عليهما السلام. ويستشهد الكتاب ببعض الروايات التي تؤكد أن “اليماني” يخرج من قرية يقال لها “كرعة”، وهي قرية في منطقة بني خَولان، قرب صعدة. باستثناء المقابلة اليتيمة التي أجرتها صحيفة الوسط اليمنية مع بدر الدين الحوثي، لا نجد في مخرجات الحوثية الفكرية ولا في مقولات ابنه حسين ما يفصح عن اعتقاده في ذاته بكونه المهدي المنتظر.. وان كانت الماكينة الإعلامية للنظام السابق وظفت هكذا مقولات في حربها الدعائية ضد الحوثية ، وربما اندرجت مقولة قاسم سلام فيما يتصل بكونها حركة صفوية في إطار تلك الحرب لاسيما وهي صادرة عن احد أقطاب البعث الذي خاض صراعا مريرا من العراق ضد إيران.. خاضت الدولة اليمنية ست حروب ضد الحوثية ، وكانت الحركة تخرج من كل منها أكثر قوة وثباتا ، لا لأنها فقط تلقى دعما شعبيا من سكان مناطق تعيش ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة، بل لأنها رأت فيها المنقذ من جور وتسلط النظام السابق .. ولأنها تلعب على مسرح جغرافي هو ذاته شهد الولادة الأولى للدولة الزيدية الهادوية منذ ما يزيد عن ألف عام ، حيث وجدت القوى والحركات السياسية المناهضة للدولة العباسية، ومنها الزيدية، في المناطق البعيدة كجبال اليمن الوعرة مرتعا آمنا لها ، وأضحت تدعو لنفسها جهارا نهارا. بعدما كانت تعمل بالخفاء وبسرية تامة خوفا من البطش والقهر، , الحوثية تعي جيدا أهمية البعدين الجغرافي والسكاني في عملها، ولعل ذلك سببا رئيسيا في عدم انضوائها حتى الآن تحت تنظيم سياسي محدد، إذ أن أي حزب سياسي من شأنه تأطير وتحجيم عملها وفق صيغ وقوالب معينة يغلب عليها الطابع الوطني العام ، فيما هي تدرك ان سندها الشعبي يكاد ينحصر في منطقة جغرافية لا زالت تناصر آل البيت وتحتفظ لهم بكثير من الولاء .. وعينها فقط على تلك الرقعة الجغرافية بغية إقامة مشروعها عليها .. لاسيما وهي تدرك ان غالبية الشعب اليمني هو من الطائفة السنية .. لكنها وإن كانت خارج المنظومة السياسية الرسمية إلا أنها لاعب مهم وفاعل على مسرح السياسة، يدلل ذلك اتجاهها مؤخرا للدفع بتأسيس حزب سياسي هو حزب الأمة ، برئاسة محمد مفتاح ، عده البعض الذراع السياسي لها لاسيما وهي لا تنفك تتباعد عن حزب الحق ، الحاضن الأول لقيادتها.. وهي حاليا عقدت تحالفات سياسية شتى مع أطراف محلية مؤثرة ، فإن كان تحالفها مع بقايا النظام السابق لا سبيل لتأكيده، غير ان تحالفاتها مع بعض تيارات الحراك الجنوبي وتيارات شتى من قوى الثورة الشعبية لم تعد تخطئه العين. تستهدف الحوثية في تحالفاتها السياسية لا شك إيجاد موطئ قدم لها في أي ترتيبات مستقبلية ، وتضغط في ذلك بشده على لدوها التقليدي اللدود حزب الإصلاح ذي الاتجاه السني.. لتحجيم دوره السياسي في مقابل انتزاع مصالح سياسية لها.. وقبل ذلك حينما كان الشعب في ذروة انشغاله بإسقاط النظام ، أخذت الحوثية تتوسع في عديد مديريات من محافظات الجوف وعمران وحجة ، ولولا ما جابهته من مقاومة شرسة من بعض السكان ذوي النزعة الحزبية الإصلاحية ، لكانت على مرمى حجر من صنعاء. هنالك فقط يتبدى المشروع السياسي للحوثية ، في السيطرة على مناطق بعينها حيث الطبيعة السكانية المواتية لإعادة المجد التليد لكرسي الزيدية ، وهو مع الأسف مشروع ضيق لا يتسع للوطن بأكمله. هذه الحركة كان لها قصب السبق في التمرد والثورة على الظلم والقهر وجبروت السلطة وهيمنتها، في وقت كانت أحزاب المعارضة الرسمية لا زالت تناضل على استحياء ، وهو ما لا نستغربه في حركة انبثقت من رحم فكر يرى ضرورة الخروج والتمرد على الحاكم ، مستحضرةً تاريخاً عريقاً دلالته الفارقة، خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما على ولاية يزيد بن معاوية الفاسق..غير ان ما يؤخذ على هذه الحركة الفكرية السياسية انها في الوقت ذاته تستدعي مفاهيم ومفردات من كهوف الماضي السحيق الى عصر لم يعد يقبل تمايز إنسان على آخر لمجرد نسبه وحسبه،.. فضلا عما يعنيه الأمر من تراتب طبقي غير مقبول شرعا ولا عقلا. هي الآن على مسرح التاريخ، فارضة نفسها بقوة على الواقع السياسي والاجتماعي ، إلا ان للتاريخ عيونا ترقب باهتمام، وأحكاما لا تجامل ولا ترحم، وهي في مشروعها السياسي ترتدي ثوبا ضيقا لا يليق بها ولا يتسع للوطن بأكمله ، ولعل إصرارها على الانتساب لشخص وعائلة بذاتها (الحوثي) ما يفضح تكتيكاتها الضيقة..وهو أمر يؤسف .. ما لم تتدارك نفسها وتعلن صراحة انخراطها في الحياة السياسية العامة على أسس وطنية لا جهوية أو طائفية.. لتعيد الاعتبار لذاتها ولما يخدم مصلحة الوطن بأكمله.