كان الناسك يرتجف من شدة البرد والجوع يتأمل الأفق السعيد حول ديره فرأى شخصان ينهبان الأرض في اتجاه الدير من جهتين متضادتين لكنهما لن يصلا قبل ساعة، فدخل الدار وأخذ يمسح على بقرته التي اشتراها يومه ذاك لينتفع بلبنها، ثم آوى إلى فراشه، فداهمه النوم من ساعته وأخذ يغط في سبات عميق، وصل الوافد من جهة الغرب ثم تلاه بلحظات القادم من الشرق فأخذ يتعارفان:من أنت؟ قال القادم من الشرق أنا “لص” جئت لأسرق بقرة هذا الناسك فأنا أحق بها فمن أنت؟ قال : أنا الشيطان قادم من الغرب لأسرق الناسك نفسه..فتعجب اللص من الشيطان وقال: كنت في نظري “هيبة” !!فنزل قدرك عندي إذ ينحصر طموحك في سرقة ناسك فقير معدم صغير الرأس ، ضامر الجسم، مهلهل الثياب فماذا تصنع به؟ ضحك الشيطان بسخرية وسأل صاحبه اللص:أتظن أن بقرة الناسك أهم من الناسك نفسه؟ قال اللص: نعم وألف نعم...قال الشيطان: بإمكانك أن تحصل على الحليب بألف وسيلة، أما ماهو موجود في عقل الناسك فليس هناك من وسيلة للحصول عليه إلا أن تسرق الناسك نفسه إلى وجهة لا يعلمها أحد. تشير الكاتبة غادة العبسي إلى أنها قبل دخولها المدرسة تعلمت أن هناك مؤامرة تحاك ضد الإسلام والمسلمين، وعندما دخلت المدرسة ثم الجامعة ثم التحقت بالحياة العامة لم يتوقف حديث الناس عن«المؤامرة»!!!...ثم تشير الكاتبة بسخرية لاذعة وقاسية يستحقها المجتمع إلى أن العالم من حولنا مشغول بالإنجازات العلمية، في إطلاق الصواريخ والمركبات الفضائية بينما شيوخ اليمن مشغولون ببرنامج تخريب بلادهم والاعتداء على حقوق الآخرين في خطف الأجانب وإطلاقهم أو تدمير أبراج الكهرباء..ولابد من الاعتراف أن هناك نماذج من البشر محسوبون على اليمن لا يستحقون شرف الانتماء إلى اليمن، بل يمكن اعتبارهم حثالة من حثالات المجتمع اليمني...لكن السؤال هو: هل هؤلاء هم كل اليمن؟ هل اليمنيون كلهم يا غادة يستحقون منك أن تقولين : نحن شعب غبي بما يكفي لأن نصدق أن العالم على اتساعه وعلى ثرواته وعلى موقعه وعلمه وتقدمه، شغله الشاغل اليمن، كيف ينهب مقدراتها، العالم الذي يشقى لنا ويتبرع لنا لكي يملأ أفواهنا “العفنة”...هل يصح أن يقال ذلك ياغادة لأمة عريقة مثل أمتنا ظلت طوال حياتها تكابد الحياة، لم تجد حاكماً واحداً يعرف الله حق معرفته في التعامل معها؟ بل وجدت حكاماً ينكلون بها تارة باسم الدين وتارة باسم الديمقراطية وتارة باسم العلمانية، قلدوا هتلر وموسوليني و تشاوشيسكو وقلدوا سلطة الكنيسة في القرون الوسطى في التعامل مع الناس، كان بعض هؤلاء الحكام يرفعون المصحف لكنهم يطبقون«كتاب الأمير» لميكافيللي وربما تسألين: وأين نحن؟ أين الشعب؟ ولماذا يقبل الناس الظلم والحيف والاستبداد؟.. وقد علمت من قراءاتك أن الظلم في حد ذاته لا يولد الانفجار وإنما الشعور بالظلم هو الذي يصنع المعجزات... أما بالنسبة للمؤامرات ضد العالم الإسلامي، فلايمكن معرفة ذلك بمنأى عن غزواتهم واحتلالهم للكثير من الأقطار فيه، فقد احتل الدنمركيون والهولنديون والطليان والإنجليز والفرنسيون مساحات شاسعة وضموها إلى بلدانهم الأصلية، تلك أمور ليست بخافية على أحد، وقد كان الرومان يحتلون الشام ومصر وشمال أفريقيا، ولم يكن بإمكان أي قوة في العالم دحرهم أو زعزعتهم من بلدان كانوا يعتبرونها جزءاً من ممتلكاتهم حتى جاء الإسلام، فأجبرهم على الانكماش بعد التوسع، لكنهم يرون أنفسهم اليوم أسياد العالم.. وماداموا يرون ذلك، فلابد على الأقل أن يحولوا بين أمة كانت قبائل ضعيفة وفقيرة، تحترب فيما بينها للحصول على الماء والمرعى وبين أسباب نهضتها وعزنها وقوتها وسؤددها وليس غير الإسلام من أيقظهم وألهمهم أسباب القوة والكرامة، وليس هناك من ضمان أن لايعود العرب إلى سابق مجدهم وقوتهم ونهضتهم الرائدة سوى أن يعتمدوا على مخططات الغرب في تغذيتهم وكسوتهم وتوفير أسباب الحياة لنا بأيسر الطرق، ولا تصدقي يا غادة أن الغربيين أحفاد الرومان قد نسوا الشام ومصر وشمال أفريقيا، فإذا قرروا أن يتآمروا، فليس على الأفواه الجائعة ولا على الأجسام المريضة والعقول الكليلة والعزائم الواهنة.. إنما هم يعرفون على من يتآمرون ولماذا يفعلون ذلك؟ اليمن مازالت بخير ياغادة فلا يدفعنك الغيظ المكتوم ضد الممارسات الخاطئة التي يمارسها إما بعض المعتوهين أو من غيرهم، من حرموا التعليم وحرموا التربية والتوجيه السليم، كما حرموا فهم الإسلام على حقيقته.. فلا يصح أن تتجاوزي في نقدك حدود الإصلاح لنفوسهم والتهذيب لسلوكياتهم. ولقد بدأ التغيير ولن تتوقف عجلته.. وليس بين النصر وبين شعبنا سوى أن يتعلم الناس أنهم كانوا شركاء في صنع الفقر والجهل والتخلف، وعليهم اليوم أن يرتقوا بسلوكياتهم وحسن تفكيرهم ليكونوا شركاء في صنع المستقبل الذي يريدونه.