تداولت وكالات الأنباء والصحف العربية والدولية خبراً فاجعاً عن اليمن، ومحتوى الخبر أن 22 في المائة من سكان الوطن يعانون من سوء التغذية، وأن 5 ملايين من اليمنيين لا يجدون قوت يومهم. وقد تم تعميم الخبر بناءً على تقرير إحدى المنظمات الدولية المعنية بالغذاء العالمي، وحينما سُئلت في إحدى الفضائيات العربية عن الخبر وأبعاده وتداعياته، قلت لهم: إن مشكلة المنظمات الدولية تكمن أساساً في أنهم يعتمدون قواعد معايير إحصائية دولية تنطبق بنسبة كبيرة على البلدان المتطورة التي تتمتع بجهاز إحصائي وإدارات راصدة لكل صغيرة وكبيرة، بالترافق مع وعي كبير عند الفئات المُستهدَفة من السكان في تلك العمليات الإحصائية .. كما أن تلك المعايير بعيدة كل البُعد عن الحالة اليمنية وما يُشابهها من أوضاع عربية وإفريقية، لسببب بسيط يكمن في أن الإقتصاديات العائلية اليمنية، غير المشمولة بأنظمة الإحصاء النمطية أكبر بكثير من تلك التي يمكن أن تقدم بيانات واقعية، كما أن جهاز الدولة يفتقر لأنظمة الحوكمة المؤسسية على الوضع الحياتي الفعلي الذي يطال عموم المواطنين، لكونه جهازاً مخطوفاً من الدولة، مُسيراً لصالح الطُغم المالية والعسكرية المتطفلة. في اليمن نستطيع أن نتحدث بكل ثقة عن سوء التغذية بدرجاتها المختلفة، ونستطيع القول بأن النساء الحوامل والأطفال الصغار أكثر من يعانون من هذه الحالة، كما نستطيع أن نتحدث عن ثقافة غذائية تسهم إلى حد كبير في سوء التغذية، فالمائدة اليمنية لا تكتمل بحكم العادة..إن خلت من البروتينات الحيوانية الضارة، وهذا يجعل علاقة المواطنين بالثراء الزراعي وتنوعه الخضري الكبير غير ذي معنى في المائدة الرئيسية للمواطن، إذا استثنينا بالطبع القات، الذي يلتهم عقولنا وجيوبنا ومياهنا وأراضينا الزراعية دون رادع..ناهيك عن غياب الفواكه المحلية، كأصل في التغذية المتوازنة، وكذا ما يحيق من تلف بالغ بالإنتاج الزراعي بسبب غياب أنظمة الحفظ والتعليب المنزلي، مما يعزز من سوء التغذية. نحن لا نُنكر أن اليمن بلد فقير في الوضع الماثل .. قادر في ذات الوقت على النمو السريع والكبير إذا تغيرت الجغرافيا السياسية والثقافية بقوة القانون والنظام، لا الأماني والبكائيات. ولا ننكر أيضاً أننا أصبحنا “ملطشة” الأرقام النمطية لإحصاءات المنظمات الدولية التي تستقي مفرداتها من رافد بذاته، دونما نظر حاذق للتركيبة الاجتماعية والاقتصادية الأُفقية للبلاد، لكننا ندرك أيضاً أن حالة الفقر والإفقار الشاملين ليسا نابعين من الفساد السرطاني المُستشري في الداخل فقط، بل أيضاً من النظام النقدي والتجاري الدولي الذي كان الراعي الأمين لهذا الفساد، والذي فرض علينا طواعية وقسراً روشتات صندوق النقد الدولي«الإصلاحية!!»، وآليات منظمة التجارة والتعرفة الجمركية الظالمة. اليمانيون كغيرهم من بلدان البؤس والشقاء لا يدفعون فاتورة الداخل المتخثِّر بالفساد فحسب، بل يدفعون أيضاً فاتورة البؤس غير المرئية للنظام المالي والاقتصادي الدولي. ويتعزز كل ذلك بسياج الرافضين للإصلاح الحقيقي من المنتفعين الأشاوس بتلك السياسات القاتلة. على المنظمات الدولية أن تبحث عن سر المحنة من خلال هذا المشهد الشامل، لا الإحصاءات الرقمية المُخاتلة .. المُربحة لسدنة هذه المنظمات.. المتهافتين على التمويلات الدولية السخيّة، لغرض في نفس يعقوب. في دارفور السودانية وقفتُ على المبالغ المالية المليونية التي تصرف لصالح أُمراء الحرب من الأطراف الثلاثة (كبار ضباط الجيش النظامي، وأمراء حرب المخيمات المتاجرين بالبسطاء، والموظفين الدوليين الذي يستلمون رواتب هائلة، لأنهم تحت طائلة الخطر!!).. فتأمل معي عزيزي القارئ هذا المشهد التراجيدي لتعرف ما يجري لدينا أيضاً. [email protected]