من المحال أن يجيء التغيير السليم المرجو في اليمن من التكوين الذهني لجغرافية شمال الشمال؛ فالشيخ يزدرينا والسيد يزدرينا أكثر. وتاريخياً: ليس أسوأ من تعاضد المذهب مع القبيلة هناك لإنتاج هذا الفضاء الموبوء المعيق للتحرر والتقدم والعدالة.. الفضاء الذي استمر يتسم بالهمجية وغلبة السلاح والاستبداد. كانت رمزية المشائخ والسادة هي التي تزدهر أكثر بعد كل منعطف حاسم في حياة الشعب - كالانتفاضات والثورات خصوصاً - وحتى في عز صراعهما تجاه بعضهما -مثلاً -ظلت مدخلاتهما ومخرجاتهما ترتكز - بصورة واعية ولا واعية ً- على هموم تنمية المركزية الحاكمة لجغرافيتهما على حساب ضمور وهشاشة وإذلال بقية الجهات المبطوش بأهلها وخيراتها. هذه الحالة تجذرت بينهما ومازالت تستهدف الشعب جراء تراتبية الاستلاب والقهر.. فالسادة الذين أخضعوا القبيلة بالنص جعلوا القبيلة تخضع أختها بالقوة، وصولاً إلى تضخم هذا الوعي خلال قرون ليصير عنواناً أساسياً لجغرافية شمال الشمال حتى من دون شيخ ولا سيد أيضاً في أحيان كثيرة. لذلك ليس من فارق حقيقي عندي بين عبدالملك الحوثي مثلاً أو صادق الأحمر، رغم استمرار الأخير في محاولات إقناعنا - تمويهاً وتزييفاً - أن والده كان الجمهوري الأول والوحدوي الأول أو أنه الآن هو الثوري الأول «حامل الراية المظفرة». على أن رمزية الشيخ ورمزية السيد هما أكثر من تمثلان الآن أبعاد الصورة النمطية الأكثر دلالة على الاندفاع إلى الماضي المعربد السحيق بنوايا استعادته وتقويته مجدداً، رغم كثير من التحولات العاصفة التي طرأت على اليمن واليمنيين خلال 50 سنة على الأقل - أي ما بين الثورة الأولى والثورة الجديدة. ومع ذلك يبقى من المهم الأخذ في الاعتبار أن عديد رموز قبلية ثارت على النظام الإمامي ليس لأنها كانت تريد تغييراً جوهرياً في النمط الاجتماعي، بقدر ما جمهرت لتؤول لها تركة الملكية فقط. فضلاً عن هذا استمرت نظرتهما إلى كل ما يقع خارج نطاق مجال فضائهما الجغرافي، مؤسسة على ما رضعاه من حبل مشيمة السيكولوجية التاريخية الواحدة التي ربطتهما معاً ك«أئمة وعكفة». بل يبدو أن اتفاقهما الضمني - مهما بلغت درجة الخصومة بينهما - كان هو الثابت المتحكم بممارستهما منذ ما بعد 62م حتى الآن. بينما كانت تمظهرات هذا الثابت تصبغ ممارستهما بضرورة إعاقة تنمية المشروع الوطني الكبير والحرص على دحر كل وقائع وممكنات ومتاحات التمدن والحقوق والشراكة، مع عدم احترامهما اللائق لكل قوانين وصيغ المواطنة المتساوية بالطبع. أما في سياق المفهوم الخاص للجانبين تجاه فكرة الدولة فلطالما اختصرته الأداءات المشينة لهما في ازدرائها وتيئيس الثقة بها وتعطيل إرادة كل أمل لتحقيق سلطتها على الأرض اليمنية وعلى الشعب اليمني. وبالمحصلة فإن النتيجة الوحيدة لكل ذلك الوباء التاريخي الرهيب صارت تتجلى في استمرار اللعنة المتراكمة على الشعب اليمني ليس إلا - ما يحدث في الواقع المزري اليوم للأسف - إذ رغم كل ما اعتقدناه مؤثراً في البنى الذهنية لهذا الفضاء العجيب مازال المجد للشيخ هناك، ما لم يكن المجد للسيد، يعني سوأة وطنية وسوأة وطنية أكبر.. وبس.