يقال إن أحد المسجونين ظل يحفر أعواماً ليهرب من زنزانته, فلما نجح وجد نفسه في زنزانة أضيق من زنزانته الأولى, هذا هو حال الثوار اليوم في هذا البلد.. فبعد تضحيات وأحلام كانت تتسع لهذا الوطن شماله وجنوبه, شرقه وغربه, إذا بمن ينادي بتضييق الدائرة أكثر وأكثر, فبدأت التطلعات تتفكك, وتتعدد المطالب وتتنوع بعيداً عن الأهداف الحقيقية, التي تغنت بها الجموع فتقاطرت إلى الساحات في بداية هذه الثورة المباركة, التي نرجو أن تستمر مباركة, فتصل إلى غايتها المنشودة, وتتخلص من واقعها الضبابي القاتم الذي يحجب الرؤية كثيراً خصوصاً الشباب والمواطنين البسطاء في هذا الوطن الغارق في بساطته. لست متشائماً لكني أنظر بعين الشفقة والألم في واقع الكل فيه ماسكٌ قلمه وممحاته يشطب من يريد, ويكتب من يريد, يوزع النضال والثورية لمن يراهم, وينفي كل ذلك عن آخرين بسذاجة, وقد قرأت لأحلام مستغانمي أن الوطن لا يرسم بالطباشير، والحب لا يكتب بطلاء الأظافر.. التاريخ لا يكتب على سبورة، بيد تمسك طباشير. وأخرى تمسك ممحاة. هذا ما نريد أن يعيه المتصارعون اليوم بأن المرحلة حرجة, وأن ما نمر به تنوء بحمله الجبال, ففي لحظة تحولت الأحلام إلى كوابيس لا نهائية, انشطر الخوف إلى ملايين من الحيوانات المخيفة والوجوه المشوهة, المشهد السياسي لم يعد صافياً, بل امتلأ بصور بشعة وخيالات أخرى تتقافز في زوياها.. غير متمتعة بالوعي كما يبدو إلى اللحظة, فلا نراها مؤهلة التأهيل الحقيقي لقيادة وطن, مصالحه قبل المصالح الآنية الضيقة, لا تسعى مسعى الثوار في تحقيق أهدافهم, وضمان حقوق الشهداء والجرحى, وتقتص للمظلومين في كل شبر في هذا الوطن. انسداد الأفق يخنق التطلعات, يذبح الآمال العراض باستعادة حلم والمضي فيه, وتوحيد جيش وترميم تصدعات قلب منهك, كيف نستطيع التخلص منه, والخروج إلى فضاءات تكون الرؤية فيها أكثر وضوحاً, والمستقبل أكثر قرباً من الأيدي التي تريد ملامسته وتحلم, بل وقد خططت لذلك.. لا أحد إلى اللحظة يعمل على تشخيص الواقع تشخيصاً حقيقياً مبدياً الأسباب, مع فضح الموتورين ونشر غسيل المهووسين بتدمير البلد والمشعلين للحرائق, التي لا تنطفئ بتاتاً كأنهم أوقفوا أنفسهم للنار, فصاروا عبيداً لها من حيث لا يشعرون. فتضيق الدائرة في واقع ملبد بالكره والكره المضاد, هكذا يخيل لي حين أتابع تجاذبات الفرقاء, حيث تتنفس من صباحك كلمات التخوين والتجريح, لا ترى غير عفن المفردات المترامية والمتطايرة في أجواء, يفترض أن تكون حميمية وشاسعة تتسع لأحلام الجميع دون استثناء, هي مفردات تتوالد كمسخ قذر يخرج من أفواه الكثيرين وتعليقاتهم وتندراتهم, كأنهم لا يتقنون غير ذلك, ومن المؤسف أن يتبنى كل هذا النخبة, أو جزء كبير منها, فيصنعوا فضاءً ممتداً في انحطاط كلامي غير مسبوق, فغدت أجواء الحاضر كلها كلامية, سديمية مقيتة من الفعل ورد الفعل؟.. فتحس بانحسار أحلام الثوار, أو تجد أن بعض الآراء المفرطة بالتقسيم وتقسيم التقسيم لها صدى واسع وتغطيات إعلامية, تزيد من تضييق دائرة الحالمين بوطن كبير, يحتضن كل الأفكار والرؤى والمشاريع النهضوية.. فهناك من يبرر موقفه بالانتماء, ولكنه المتطرف والحاد في انتمائه, والآخر ينسلخ عن انتمائه, ويبحث عن انتماءات أخرى, تسمح له اللغة بترادفاتها وتعددها “المصطلحاتي” إن جاز التعبير.. القابلة للشطب والمسح والتكرار, فلابد من الاعتراف بأن المناخ غير مشجع وليس مهيئاً البتة لأن يستقيم الحال في الوقت القريب, وكل شيء قابل للانفجار, وكل جميل في هذا الوطن آيل للانتهاء والانهيار تحت ظل هذه السماء, التي لم تعرف الصحو منذ زمن.. قابل للشطب في أية لحظة إذا لم يتدارك الأمر, ويهب الثوار وشركاؤهم في استكمال أهداف ثورتهم دون النظر كثيراً إلى الخلف مستفيدين من أخطائهم السابقة, هذا ما نأمله.. رابط المقال على الفيس بوك