ربما لم يكن خافياً على الجميع ذلك الفساد العريض الذي تعيشه جامعات الوطن والتي من المفترض أن تكون صروحاً مشيدة للارتقاء بالوطن! مصاف الدول صاحبة الثروة البشرية الهائلة المسخرة لخدمة الفكر الإنساني وانتشال الشعوب من مستنقعات الجهل والاتكالية والفقر الذي يعقبه المرض بكل أشكاله. لكن الأمر لا يخلو من إلتماس الأعذار مهما كانت واهية على اعتبار أن الكبار الذين كنا نراهم أوتاداً تنتصب على أكتافهم رايات الوطن لم يكونوا إلا كباراً في بطشهم وسوء استغلالهم لمناصبهم واحتكارهم لصلاحية رتبهم الوظيفية فيما يعود على أولي القربى منهم بالفائدة ضاربين بأهل الأحقية والاستحقاق عرض حائط التهميش وإقصاء ومستندين بذلك إلى ركن السياسة الركين وحصنها المنيع، ومع هذا فالاعتراف بوجود الفساد اليوم فضيلة والسكوت على استمراره على هذه الشاكلة رذيلة إذ أن الفساد الأكاديمي الذي تشكو منه كل جامعات الوطن تسرب بفعل العدوى إلى كليات الطب البشري التي يظن أغلبنا أنها محاريب لملائكة الرحمة، فإذا بها مقابر لزبانية العذاب والأمر ليس غريباً جداً لكنه مخيف جداً إذا علمنا أن طلاب كلية الطب في تعز على سبيل المثال لا يحصلون على مادة تشريحية حية تسهل لهم فهم جسد الإنسان طبيعياً على اعتبار أن هذا سيساهم في وصف العلاج الملائم مستقبلاً. إن عدم وجود مشرحة يعني أن طبيب المستقبل هذا سيتعامل مع مريض المستقبل ذاك كجسد غامض! وككتلة من اللحم يمكن أن تخفي أو تستوعب أخطاءه ووصفاته الدوائية وفي النهاية الأعمار بيد الله! وإذا عرفنا أن السبب في أزمة المشرحة وأطباء التشريح هم أولئك المبعوثون لدراسة تخصصات طبية معينة خارج الوطن من ضمنها التشريح، لكنهم قاموا بنقض التزامهم بالدراسة الأكاديمية موضع الاحتياج والتحويل إلى تخصصات أخرى هناك حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع، وليس هذا هو العيب الوحيد الذي تشكو منه كلية الطب في تعز بل إنها في واقع الأمر بؤرة فساد إداري ومالي كبير جداً ويكفي أن نعرف أن عمادتها قامت باستلام رسوم تسجيل لمجموعة كبيرة من الطلاب لعدة سنوات قادمة، شعارها في ذلك شعار أي فرزة دبابات في دفع الحساب مقدماً وكأن القائمين عليها يتقمصون دور مندوب الفرزة شكلاً ومضموناً وشأن عمادة كلية الطب لا يختلف كثيراً عن شأن أي دائرة أو مكتب حكومي في الوطن فموظفوها يتعمدون اختلاق الزحمة والطريق فارغ كما يُقال، فذلك الازدحام الذي تجاوز الأسوار يوم إجراء امتحانات القبول يوحي بقدر عال من الحرص والنزاهة و صحوة الضمير بينما كواليس هذا الصرح الأكاديمي تضج بالفوضى الأخلاقية العارمة التي لا يعرف ظاهرها من باطنها، فالتسجيل والقبول في كلية الطب بتعز لا يحتاج إلا لبعض الترتيبات الإدارية الخاصة ورفع اليد عن التوصيات المنطوية على خلفيات ذات وجاهة أو محسوبية حزبية كانت أو قبلية والتي تقطع الطريق عادةً أمام فرصة الاستحقاق المنطقية أمام أبرياء من أبناء الشعب يطمحون لمستقبل أفضل. في كنترول الكلية ترانزيت مفتوح للبعض من أصحاب الحصانة الأكاديمية وهذا يوحي بتلك النسبة غير التقديرية للانفلات الإداري والوظيفي داخل الجامعة خاصة في وجود نقص حاد في التجهيزات المكتبية الحديثة التي تسهل حصول الطالب على خدمة إلكترونية جيدة وتمنح الكلية هيكلة معلوماتية يمكن الرجوع إليها تلقائياً بما يخدم عملية التواصل بين الطالب والكلية خاصة وأن نظام الدراسة في الكلية هو نظام الكورس وليس نظام الفصل وهذا بالطبع يتطلب سرعة إنجاز لأي مخرجات تعليمية وعرضها شفافية كاملة سواءً ما يتعلق منها بالامتحانات أو نتائجها أو أي تعديلات تطرأ على اللائحة التعليمية الداخلية للكلية وإذا عرفنا أنه لا يوجد مجلس للكلية يقوم على حل أو ربط العلاقات القائمة بين الطلاب والكلية بشكل سريع ومدروس فإننا نجزم أكثر بحجم الفساد الذي تعيشه كواليس هذا الصرح الأكاديمي مع بالغ الأسف. ولدينا الآن عدة تساؤلات هامة حول مصير الأموال التي تم دفعها مقدماً ولعدة سنوات قادمة، وكأن مقاعد الكلية أصبحت شققاً مفروشة أو أجنحة فندقية تحت الطلب، كما أن العجز في تقديم مادة علمية متكاملة عبر معامل الكلية ورفدها بجانب تشريحي عملي يجعل من الصعب استيعاب أن يكون خريجو هذه الكلية أطباء صالحين للتعامل مع أجساد البشر، وهذا يهز الثقة بالطبيب اليمني ويشجع على تثبيت عقدة الأجنبي لدى جمهور المرضى الذين لم تسطع الدولة إعطاؤهم الحق الكافي في الحصول على الدواء بعد أن استشرى الفساد المالي حتى طال أرواح الناس وحقوقهم الطبيعية في الحياة، وبعد فإن المرء منا يشعر بنوع من الإحباط حين يرى أن من يمكن أن يمنع عنك أسباب الموت هو من يسلبك حق الحياة وهذه طامة كبرى لا يجب أن يغفل عنها من بيده إنزال العقوبة وتحويل مسار القضية من الخطأ إلى الصواب ومع علمنا أن من حق الجميع أن يحصل على التخصص العلمي الذي يريد إلا أننا نؤكد على الغربلة والتشديد والتنقيح، لأن أجساد البشر أصبحت صفقات تجارية غير قابلة للخسارة عند كثير من الأطباء من جيل مضى فما بالكم بأجيال قادمة تعتمد الوساطة والغش كأسلوب للحصول على الشهادة الجامعية وعلى المرضى ومعاناتهم في الحصول على وجاهه اجتماعية! وكأني والله أرى مستقبل أطفال ونساء وكهول الغد بين يدي أطباء يصفون الدواء بمشرط ويلتقطون أرزاقهم من أحداق الناس بمبضع فأين هي الإنسانية وأين هو العدل وأين هو ولي الأمر الذي يقف على رؤوس هؤلاء العابثين بمصير مجتمع بكل ما فيه؟!!.