من الأهمية بمكان الآن قيام اليسار العجائزي واليسار الشبابي الجديد بالاعتراف المكين من الناحية النظرية ابتداءً بأن الرأسمالية ونسيج علاقاتها الإنتاجية والاجتماعية التي حملها الاحتلال العسكري الفرنسي أواخر القرن الثامن عشر (احتلال فرنسا للأراضي المصرية) والاحتلال البريطاني والفرنسي بعدئذٍ للشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا قد أحدث تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية جوهرية شكل منعطفاً سياسياً وتاريخياً كانت أهم منجزاته على أرض الواقع الملموس الآتي: (1) بناء مدن على أساس التخطيط المدني، مزودة ببنى تحتية (طرقات مسفلتة، معبدة، سكك حديد في كل من مصر والسودان استقطبت عشرات الآلاف من الأيدي العاملة التي تخلت من متن المجتمع الزراعي – المتريف ومن مرابع القبيلة، شبكات مياه نقية، شبكات كهربائية أضاءت ليس غرف المنازل والطرقات بل أضاءت عقول الناس، شبكات الاتصالات السلكية والبريد، مباني المدارس والمستشفيات)، وأدمجت عشرات إن لم تكن مئات الآلاف من الناس بمجتمع المدينة الملتزمة للقانون والنظام، الأمر الذي أدى إلى تحطيم التمييزات الاجتماعية والاقتراب من المواطنة المتساوية أمام النظام والقانون في كثير من الحالات كالمرور والمثول أمام القضاء، وهلم جراً. (2) تسويق التعليم الحديث بمنشآته ومناهجه وجملة مستوياته، الأساسي وحتى الجامعي، مع فتح الباب للتأهيل العالي والمتوسط في المراكز الجيوسياسية لدول الاحتلال، ولعب التعليم دوراً في خلق فئة مثقفة استطاعت إنشاء نادٍ نخبوي سواء كان يمينياً أو يسارياً، وهناك العديد من الأعلام في هذا المجال أثروا الحياة الأكاديمية والثقافية، وبعضهم قاد العمل السياسي المعارض، وأسس الأحزاب والتنظيمات السياسية والنوادي الثقافية والصحف والمجلات وغيرها من السياسات الثقافية والمؤسسات الاقتصادية ومنظمات المجتمع المدني. (3) إدخال المطابع والتي قدمت خدمات جليلة للنهضة التعليمية والثقافية، وربطت هذه المدن الحديثة بمجريات العصر في المجتمعات الصناعية المتقدمة، وليس هذا فحسب بل إن هذه النهضة أيضاً قامت بفضل حركة الترجمة الناجمة عن شريحة أكاديمية ومثقفة نالت قسطاً وافراً من المعرفة في الثقافة العلمية والثقافة الأدبية. (4) تسرب الورش الصناعية كمهن مساعدة وضرورية، وتسرب الصناعات الغذائية والصناعات التعدينية والتنقيب على المعادن، وهذه اقتضت بالضرورة تأهيل قوى بشرية نوعية تستطيع التعامل مع هذه المهن وفرص العمل، وهذه العملية استغرقت وقتاً ولكنها قدمت بنية بشرية تحتية لليسار الذي نهض فكرياً وسياسياً من قبلها. (5) تفكيك نظام العبودية ونظام القبيلة والبداوة، والذي كان سائداً، كما تم استهداف النظام الاجتماعي الإقطاعي الذي كان مهيمناً في بعض المناطق، والذي فرض نظامه السياسي الاستبدادي لفترة طويلة من الزمن، محافظاً على البنية الاجتماعية القبلية والبدوية لمصلحته في استخدام قواها البشري وثقافتها العصبوية في النزاعات والحروب القبائلية والمناطقية والجهوية والمذهبية والدينية. (6) استقطاب المرأة إلى ميدان العمل والتعليم والثقافة، الأمر الذي خلق فرصاً جديدة ومناخات مؤكدة للتحرر من الأنظمة الاستعبادية والقبائلية والمتبدونة.. ودخول المرأة بصورة جريئة إلى ميادين حيوية كالتعليم الأكاديمي والعمل السياسي والإنتاج الصناعي والمنظمات الاجتماعية، أكسب منظمات المجتمع المدني زخماً هاماً في اتجاه إخصاب المجتمعات المدنية الناشئة. (7) وتأسيساً على منهجية التنمية والتطور المحمول على هذا الاحتلال تكونت الطبقة الوسطى في كل بلد على حدة، ووفقاً لظروف وشروط الاقتصاد الرأسمالي السلعي النقدي، وهذه الطبقة الواسعة«الشرائح» لعبت دوراً إيجابياً في تحديث المجتمع بصبغة قد لا تكون متطابقة مع ما هو حاصل في دول المركز، ولكن بالمقارنة الموضوعية، وفي نفس الوقت تكونت طبقة عاملة ناشئة ليس بالضرورة شبيهة بالطبقة العاملة في بلدان النظام الرأسمالي الناضج في أوروبا وأمريكا، وتم التعامل معه هذه الطبقات الحديثة بوصفها مصدراً لليسار، فكراً وسياسة. رابط المقال على الفيس بوك