قرأت كتاب «سر المعبد» للقيادي الإخواني المنشق ثروت الخرباوي والذي يعرِّفه بأنه «الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين»، بعد عزوفي عن قراءته لشهور طويلة؛ بسبب عنوانه الذي كثيراً ما يوحي لي بعناوين من نوع «فضائح ال...»، «أسرار ال...»، «كواليس ال....»، وغالبية هذه الكتب ما تكون ذات منحى تهيؤيّ أو خيالي أو مشكوك في المصادر التي تبني عليها آراءها وتنقل من خلالها ما يرد فيها من معلومات. وبالبحث عن سيرة الكاتب في موسوعة «ويكبيديا العربية» المعبأة بكثير من التضليلات والتلبيس فيما يرد فيها من معلومات سياسية؛ بسبب كونها موسوعة مفتوحة لمن يريد الكتابة والتعديل على ما فيها، وجدتُ الموسوعة تتحدث عن الخرباوي باعتباره منشقاً عن الجماعة على إثر خلافات حول أسلوب إدارة الإخوان لانتخابات نقابة المُحامين..! لم يكُن ما ورَد في الموسوعة كافياً لتبرير انشقاق الخرباوي عن تنظيم يوصف بأنه «حديديّ» ولهذا، قرأت صفحات من الكتاب الذي لم أكُن أظن أنني سأُكمل صفحاته الأولى، لكنّ أسلوب الخرباوي الروائي المُشبع بثقافته «الإخوانية» التي لم يستطع التخفف منها رُغم ما يبذله من مجهود في استعراض معارفه وقراءاته المُختلفة في الميثولوجيا والتاريخ والفلسفة، شدَّني للاستمرار في القراءة، وذلك لتوفر عامِل مُهم: قدرٌ من التوازُن والسرد على قاعدة اقرأ ثُم احكُم، حيثُ كانَ – مع إسهابِه – يستخدِم حبكة روائية مُبدعة، تبدأ بسرد الأحداث ثم الاندهاش المُرسل، وكأنه يرويها لأول مرَّة. وللأمانة لم تكن النتائج التي توصل إليها الكاتب بجديدة أو مُدهشة لمثلي، غير أن التفاصيل التي رواها في مجمل كتابه كانت هامَّة من حيثُ سرده الصريح للأسماء والمواقف والأماكن، وغالبية ما أورده الكاتب كان من مشاهداته الشخصية التي لم تخلُ أغلبها من وجود شهود مازالوا على قيد الحياة، ورُغم أن المواقف التي أوردها الخرباوي على أهميتها البالغة هي غيض من فيض بالنظر إلى موقعه كمحامٍ مدنيّ ورجل تكنوقراط ضمن جماعَة سريَّة لديها تكوينات عدة بعضها يكاد يكونُ منفصلاً عن بعض، فمن التنظيم الخاص، ذو المهام العسكرية والقتالية والمنفصل بشكل شبه كامل عن التنظيم العام المدني الظاهِر لنا، إلى مكتب الإرشاد الذي يبدو أشبه بقُمرة قيادة سريَّة مجهولة لعموم أعضاء الجماعة، إلى التنظيم الدولي الذي يبدو كمجلس استشاري ذي طابع خاص ومنفصل أيضاً عن التنظيمين العام والخاص، وبين هؤلاء جميعاً يمكن استشفاف أن مكتب الإرشاد هو حلقة الوصل بين الجميع، وأنه صاحِب القيادَة الفعلية على التنظيمات، مع استثناءات محدودة تتعلق باحتجاجات مُتجاهلة يعبر عنها التنظيم الدولي، أو بزعم الإخوان خروج التنظيم الخاص في أوقاتٍ مختلفة عن سيطرة مكتب الإرشاد، وارتكابه لجنايات فادِحة مثلت تحدياً حتى لمؤسس الجماعة حسن البنا الذي قال – بحسب ما أورده الخرباوي – أنه لو عاد به الزمن لما أنشأ التنظيم الخاص.. وبغض النظر مما يبدو ثورة من الكاتب على أدبيات الجماعة، أو على ما يعتبره بصفة أدق «انحراف مسارها»، تحديداً بعد موت المُرشد الثالث عُمر التلمساني، فإن هذه الثورة رغم أنها تستحق الاعتداد، إلا أنّ ما يستشفه القارئ الواعي أن هذه الثورة ليست أصيلة؛ كونها ثورة ضمن السياق وليست خارجةً عليه، وبصفة أخرى، فإن الخرباوي في كلّ ما أورده في كتابه الذي أصبح قيماً – بسبب ندرة المصادِر المشابهة – ينطلق من إيمانه المُبطن بالحق الإلهي للجماعة في تمثيل الإسلام، فالكاتب وإن بدا متخبطاً في موقفه الثقافي تجاه الجماعة، إلا أنه كان نابعاً من اعتقاد بصوابية منطلق الجماعة، وكان اعتماده في عموم الكتاب على موقفه العقائدي الآيديولوجي للجماعة الذي تأثر به هو شخصياً، ورؤيته لانحراف الجماعة عن هذا الموقف الذي انقلبت عليه انقلاباً جذرياً، ولم تُفلح توصيفاته لبعض قيادات الجماعة بأنهم «ماسونيون» سواءً من خلال التشابه بين نظام الجماعة ونظام الحركة الماسونية في العالَم، أو من خلال إيراده لما كتبه محمد الغزالي في أحد كتبه، والذي وصف المرشد العام الثاني للجماعة حسن الهضيبي بأنه كان ماسونياً، أو من خلال استنتاجه الذي قضى بأن نشر سيد قطب لسلسلة من مقالاته في مجلة «التاج المصري» الماسونية، والتي كانت تمنع نشر أي مواد في صفحاتها ما لَم يكُن كاتبها عضواً في الحركة الماسونية، الذي يروي أن مُرشد الجماعة في سورية «مصطفى السباعي» كان عضواً فيها، كلُّ ذلك وغيره بما في ذلك وجود قياديين كبار في الجماعة عملاء لأمن الدولة، ومعروفون لدى قياداتها الأخرى التي آثرت التعاون معهم كي يتعزز موقفها التفاوضي مع نظام مبارك، وتستطيع الخروج ببعض المكاسب، إلى تخاذل مكتب الإرشاد عن نصرة أعضاء الجماعة بل وحتى بعض قياداتها بل وتمييزه بينهم حتى في المساعدات...إلخ، كلُّ ذلك لم ينفِ حقيقة أن الكاتب لم يُراجع موقفه الفكري من الجماعة بشكلٍ جذريّ؛ باعتبارها جماعة سريَّة تقوم على العصبوية – التي نبذها – هذه العصبوية التي تمنح الحق الإلهي لأصحابها في تمثيل دين الله، وإن كان لبعض الوقت قد حاوَل التخفيف من شدَّة هذا الإيحاء المُبطن من خلال التأسف على انخراط الجماعة في السياسة – بعد انحرافها – وهو الانخراط الذي أفسده مهمة الجماعة «الدعوية» برأيه، متجاهلاً أن الجماعة منذُ تأسيسها على يد البنا وحتى اليوم وهي تلعب أدواراً سياسية أكثر من كونها دعوية، سواءً من خلال علاقات البنا ومؤسسي الجماعة بالملِك ومؤسسة الحُكم في المملكة المصرية، أو علاقته بالأنظمة العربية الأخرى والسفارات الأجنبية. ويرجح الكاتب انحراف مسار الجماعة إلى عودة أحد منظريها المهمين – وإن لم يذكره بهذه الصفة – وهو الحاج مصطفى مشهور، والذي أصبَح مرشداً للجماعة لاحقاً ومعه عدد ممن وصفهم الكاتب ب «أخطر رجال الإخوان»؛ ذاكراً منهم: «محمد مرسي – الرئيس الحالي، وخيرت الشاطر، ومحمود عزت – نائب المُرشد الحالي، ومحمد بديع – المرشد الحالي»، وهي المجموعَة التي تبين لاحقاً أنها من قيادات التنظيم الخاص/ السريّ، الذي تم إحياؤه مجدداً في عام 93، كمُحصلة للدور الذي لعبه العائدون في حرف مسار الجماعة، وكمقدمة للممارسات التي ستؤثر سلباً على المجتمع والجماعة، وصل إلى حد تزوير الانتخابات الداخلية داخل الجماعة، وفرض رجال التنظيم الخاص قسراً، رغم ما يرتكبونه من إساءات بحق الجماعة ومسارها الفكري، وصل إلى حدّ مطالبة الحاج مشهور أثناء توليه منصب الإرشاد إلى المطالبة بفرض الجزية على المسيحيين. لكن الكاتب الذي اعتمد على آراء وتوجهات شخصيات مثل: عبدالمنعم أبو الفتوح ومحمد الغزالي وعدد من مؤسسي حزب الوسط الخارج من عباءة الإخوان في تقديم النموذج المُختلف بل والثائر على سياسة الجماعة، لم يلتفت للدور الذي لعبته هذه الشخصيات، حيث يُعزى لمحمد الغزالي مسئوليته الفكرية «وهو الذي يوصف بالاعتدال» عن اغتيال المفكر فرج فودة! كما يتناسى ما كُشف عنه مؤخراً من تورط بعض قيادات حزب الوسط بعلاقة مشبوهة بجهاز أمن الدولة، ناهيك عن أنّ تلك الشخصيات جميعاً لم تعبر عن مواقف واضحة من الإدارة السيئة للجماعة وللدولة المصرية، والقرارات التسلطية والإقصائية وصلت إلى حدّ مصادرة الدستور، وإعادة إنتاجه في صورة ديكتاتورية فجّة سواءً في المضامين أم في إقراره بصورة فردية وتسلطية وإقصائية، يضاف إلى كلِّ ذلك ما رواه المؤلف من مواقف كان تستدعي وقفة صريحة منه شخصياً مع مواقف وسياسات الجماعة وممارساتها التي كان ينكس رأسه لها مجبراً – كما في سياق حديثه – ولم يعبر عن موقفه منها إلا مؤخراً. وهذا بمجمله يعني أن الكاتب رُغم مجهوده المُعتبر، وموقفه محل التقدير، إلا أنه ثار على صورة الجماعة المشوّهة، وليس على أصلها الذي انطلقت منه، وهو احتكار الحق الإلهي في تمثيل الإسلام، والدمج بين مصالحها ومصالح الدين الذي هوَ ملكٌ للجميع، كما أن الإيحاء الآخر الذي يطغى في الكتاب، هو أن الجماعة ومشكلاتها مستحوذة بقوة على الكاتب، وأن التمايُز في ملامح الكاتب المنشق والقادة المحافظين، هو في تقدير الكاتب وفريقه لصالح الجماعة، مقابل تقدير الفريق الثاني لصالح العُصبة التي تدير الجماعة، وهنا ضاعَ المُجتمع من تفكير الجميع، المنشقين والملتزمين، وأصبَحت «الحرية» التي تغنى الكاتب بحصولِه عليها بانشقاقه عنها منقوصة المعنى؛ كونها حرية في إطار الجماعة وليست في إطار المجتمع، فضلاً عن الإنسانية!. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك