الثقافة هي فعل التغيير ليست في ذات الفرد بل في كيان المجتمع. عندما تصبح الأمة قادرة على إنتاج مشروعها الثقافي تكون قد امتلكت مقدرة إنتاج حضورها الإنساني في الحضارة، لأن عالم اليوم هو عالم إنتاج المعرفة، لا يمكن لأي شعب أن يسلك هذا السبيل من دون قاعدة فكرية تحدد له مسارات الاتجاه. وما يشاع في هذا الزمن عن صدام الحضارات وإعادة الهيمنة على بعض الشعوب وتقسيم مراكز الصراع في العالم، ماهو إلا رسم ملامح جديدة لعالم تصبح فيه المعرفة هي من يقود مصائر الأمم. فالثقافة في هذا الزمن لها أكثر من تعريف، منها ما يدخل في حسابات السياسة والمصالح، و منها ما يرسم أساليب الحوار الفلسفي والعلمي في تعريف الأسس والقوانين، ومنها جوانب اقتصادية تحتكم إلى صراع الأسواق والتنافس على الوصول إلى مصادر الثروات، وغير هذا العديد من تصاعد قوى المواجهات حتى في الأديان والمذاهب والأفكار والقوميات والأعراف واللغات، وكل هذا له مناهج ومدارس وطرق علمية تصل فيها الثقافة إلى أعلى الدرجات الفكرية في صناعة القرار وإدارة المصالح، بعد أن أصبحت الفكرة صناعة علمية. ونحن نجد في الدول الكبرى التي تضع للعلم والثقافة والفكر الحضاري والفنون منزلتها في صناعة حياة الشعوب، ما تنفقه على هذه المراكز من الأموال وتطوير البحث العلمي ما يجعل من جامعاتها ومراكزها العلمية في أولى مستويات الاهتمام السياسي، فالسياسة هنا علم وإدارة وليست نهباً وتوزيع غنائم. وهذه المفارقة هي ما أوجد هذا الصدع الواسع بين دول تصنع التاريخ وشعوب تعيش تحت مستوى التاريخ. بين أمم ترى أنها قد جعلت من المعرفة حقائق ترسم من خلالها نوعية العلاقة مع تلك الشعوب الغارقة في سبات التخلف والاحتراق الداخلي، فقوة المعرفة قد أعطت لمن ينتج آليات العمل حق السيطرة بل القهر وتهميش من لا يمتلك القدرة حتى على مراجعة حساباته القديمة. لقد أدرك الغرب منذ عقود، أن الثقافة هي جزء من صناعة القوة وآلية تحكم في مصائر الغير، فالمعرفة ليست هي فقط تحاور الممكن، بل هي أيضاً كسر الطرف العاجز الواقف عند درجة معينة من التفكير، وهذا العجز هو ما يعيد تكرار الأزمات وإنتاجها من مرحلة إلى آخر، حتى تصبح مع تعاقب الوقت حالة قدرية لا يمكن تجاوزها، لأن مقدرة التحدي تشرذم تماسكها وغزت خلاياها أمراض كسرت كل محاولة لتجاوز هذا السقوط. أن تصنع أمة ثقافتها، يعني أنها تخرج من حالة الركون والجمود والقدرية الانهزامية، وحضارة شعب لا تعرف إلا عبر هويته الثقافية التي تجعل له مكانة بين الشعوب تجعله يقف على مستوى الندية. وعالم اليوم الذي يملك هذا الكم الهائل من المعرفة بل أصبح يعزز وجوده عبر إنتاجها كل يوم، ماهو إلا دليل على أن العقود القادمة من عمر البشرية سوف تشهد مزيداً من سيطرة قوة الثقافة الهيمنة المعرفية، فالحضارة في هذا الزمان تقاس فيها مستويات الشعوب بما تقدم للعالم من معارف، وتلك وضعية تخلق مسافة بين من أعطى وبين من فشل، لأن التراجع في هذا الظرف لا يحسب من باب الحالة العامة، بل يقاس من زاوية شعوب لا تستحق التعامل معها من منزلة الإنسانية، بل هي شيء فائض عن الحاجة، وكم شعوب ذهبت ضحية هذه النظرة، فهل ندرك هذا ؟. رابط المقال على الفيس بوك