نشوء الدولة كما يقول عالم الاجتماع (ماكس فيبر) يشكل نهاية الوراثة، وبتعبير آخر فإن ولادة الدولة يعني نهاية للتنظيمات القبلية القائمة على الوراثة والتراتبية والتمييز بين الأفراد .. إلا أن العلاقة بين الدولة والقبيلة في اليمن تحولت من علاقة تناقض الى علاقة تحالف وتداخل. هنالك فرق بين القبيلة كمكون اجتماعي لا سبيل إلا إلى التعايش معه، لكنها كثقافة ومكون سياسي، أعاقت التطور الطبيعي للدولة، باعتبار أن ثقافة القبيلة القائمة على الوراثة والتراتبية أضحت طاغية على الدولة، صبغتها بسماتها الخاصة وأنتجت سلبيات لا سبيل إلى حصرها. البنية القبلية في اليمن مسؤولة عن ما نشهده من توريث في المناصب السياسية والإدارية ، فلا غرابة ان يحتل الأبناء أماكن آبائهم في المناصب السياسية والوظائف، مثلما هي المسؤولة عن طغيان طبقة المشائخ على مجلس النواب .. ونتيجة لهذا التداخل بين القبيلة والدولة، أضحى الشيخ تاجرا وسياسيا معا، فيما ابنه ضابطا وصاحب شركة، لتتمكن هذه الشريحة من احتكار وسائط القوة من مال وجاه وسلطة ، مع ما يحمله الآمر من فساد كإفراز طبيعي لهذا التداخل في المهام والوظائف . واستطاع شيوخ القبائل بتحالفهم مع الطبقة التجارية والعسكرية المؤثرة، التأثير على عملية صُنع القرار وتخصيص الموارد الوطنية لصالحهم، دونما عدالة في التوزيع ... وتتضاعف الإشكالية حينما تتعامل الدولة مع المواطنين الريفيين عبر شيوخ القبائل، واتخاذهم كواسطة للتعامل مع مواطنيها، ما أنتج غياب الدولة كمفهوم وممارسة لدى قطاع واسع من الشعب، إذ يصبح الشيخ نافذة المواطن البسيط الوحيدة الى الدولة، فالشيخ لديه هو الدولة، ولا شيء سواه. عراقة التداخل والتحالف تلك أدت إلى ضعف البدائل المدنية، ولم تتح لها أيما فرصة للتطور والنمو.. فضلا عن ان الطابع الحربي للقبائل، القائمة على الصراع ، هو مبعث العلاقة السيئة بين الدولة والمواطن، وبين القبيلة ومثيلاتها، لتستمر حالة عدم الاستقرار، والصراع على السلطة وفق منطق الغلبة والبقاء للأقوى. اليمن عبر تاريخه الطويل، من أكثر دول المنطقة العربية، محافظة وتقليدية، حيث تلعب القبيلة والتقاليد أدوارا محورية ومؤثرة في التاريخ السياسي لليمن، فيما الشروع في بناء الدولة المدنية يستوجب فك ارتباط الدولة بالقوى التقليدية مشيخية كانت أم عسكرية ، التي أدت إلى توريث المناصب والثروات، وتجذير التراتبية وتعميق التمايز بين أفراد المجتمع ضدا على روح الإسلام وتعاليمه القائمة على المساواة الذي يجد أساسه في الحديث النبوي الشريف (الناس متساوون كأسنان المشط ) تمثيلا لا حصراً .. وفك الارتباط لن يتأتى إلا عن طريق إزاحة النخبة السياسية الممتلكة دونما حق لكل أسباب القوة، خاصة أن بعضها، رغما عن التغيرات السياسية الكبيرة التي شهدها البلد منذ عامين، تسعى لأن تتوسل أحلام وآمال المواطنين في التغيير وتتخذها كقميص عثمان أو كحصان طروادة، لإعادة إنتاج ذات المنظومة السابقة القائمة على التحالفات القبلية والعسكرية، حماية لمصالحها، المتراكمة عبر سنين طوال.. على حين أن الواقع السياسي وما آلت إليه الأمور من إشكالات سياسية واقتصادية يستوجب قيام دولة مدنية كضرورة، لا كخيار ترفي ، يمكننا الأخذ به أو تركه ، فكثير من مشكلات اليمن أفرزها النظام التقليدي التراتيبي، وما يحمله من تباينات وصراعات، شعور طاغ بعدم المساواة، وتوزيع غير عادل للثروة، تمظهر في وقت لاحق في ثالوث المشكلات الحراك الجنوبي والحوثيين والقاعدة .. فيما جرى تغييب مشروع الدولة المدنية، حيث المواطنة المتساوية مرجعيتها الوحيدة التي لا تفرق بين شيخ وغيره من المواطنين، في الحقوق والحريات إلى جانب إتاحة فرص متكافئة لكافة أفراد المجتمع لتسنم المناصب ولعب الأدوار بناء على كفاءتهم دون غيرها... والقضاء على التخريجات السلبية للبنية التقليدية من ثأرات وصراعات وقطع للطرقات، وما يستببعها من هشاشة سياسية وأمنية.. فقر وتدني مستويات المعيشة.. ينبغي الشروع في التأسيس لدولة مدنية حديثة تحقق تلك الغايات، فهي وحدها الطريق للتغلب على عديد مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية.. في حين أن إغفال الحكومة لهكذا مهمة، بمبرر انشغالها بالمسار الاقتصادي دون السياسي، أو محاولة معالجة قضايا ذات طابع سياسي اجتماعي كالحراك والحوثيين بمعزل عن تقديم حلول جذرية لها، قد يؤدي الى إغراقها في تلك المشكلات وتعميقها لا حلها، سيما وقد أضحت أطراف إقليمية ودولية تغذي تلك الحركات.. فيما الحكمة تقتضى تقديم معالجات جذرية بالشروع في بناء الدولة المدنية ولا أفضل من مؤتمر الحوار الوطني.. كفرصة لن نجد مثيلا لها ومخرجا لا يضاهيه آخر في التأسيس لهكذا مشروعاً... وهو إن لم ينجح هنا، فلا أمل في تحقيق شيء آخر. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك