المهاجرة البولندية التي تسمَّت لاحقاً بمدام بيير كوري نسبة إلى زوجها الباحث العلامة بيير كوري كانت نموذجاً فريداً للإنسان العاشق للمعرفة، فهذه البولندية النحيفة الانطوائية وصلت إلى باريس وهي في ريعان الشباب، وانصرفت إلى معملها المتواضع في بيت فقير استأجرته انتظاراً لفرج الأيام وتداعيات السنين، فقد ظلت هذه السيدة البولندية مهاجرة “غير شرعية” ومن مفارقات الأيام وسخرية القدر أن هذه المهاجرة الفقيرة المكافحة كانت تبحث في الوصول إلى اكتشاف سيغير مجرى التاريخ، وسيضع البشرية أمام إنجاز علمي غير مسبوق، كانت تبحث عن الإشعاعات غير المرئية، وكيف يمكن أن يكون لها آثار علمية هائلة. في تلك المرحلة القياسية من حياتها انصرفت مدام كوري إلى أبحاثها مقيمة في مرابع الشقاء اليومي، ومتخلية عن الغرائز كلها، حتى أنها كانت تقتات ببعض الخبز الجاف، وتمضي الليالي الطوال في مختبرها المتواضع بين روائح الغازات والمحاليل الكيميائية، شاءت الأقدار أن يتعرف عليها البروفيسور الفرنسي بيير كوري، وأن تتكرر زيارته لمختبرها، وحينها أدرك بيير أنه أمام إنسانة مغايرة. امرأة تجمع بين الصبر والجلد والمثابرة واليقين بالقادم المشرق، انجذب إليها البروفيسور وعالم الكيمياء بيير، وتوجت العلاقة بزواج عرف بوصفه من أكثر الزيجات نجاحاً، وتناسباً واتساقاً مع المشاعر النبيلة. مضت مدام كوري في اندفاعاتها العلمية مستأنسة بمجاورة زوج متفهم محب، إلى أن جاءت لحظة الحقيقة ، فشاهدت الأشعة بأم عينيها صاحت بأعلى صوتها: بيير! أنظر إنها الأشعة، ياله من لون رائع!.. ياله من لون أخاذ!.. يالها من مفاجأة!. اكتشفت مدام كوري خواص الأشعة السينية وما فوق الحمراء، ومهدت السبيل لتوظيفها العلمي واسع النطاق، لكنها كانت ضحية عشقها لتلك الأشعة، فقد أمضت سنوات عمرها بين تلك الإشعاعات القاتلة، وكانت النتيجة موتها بالأشعة ذاتها، بل تماهيها النفسي والروحي مع ما أحبته وعشقته طوال سنوات أيامها الصعبة. تالياً، وكما يحدث دوماً بعد فوات الأوان.. نالت مدام كوري جائزتي نوبل، الأولى في أواخر حياتها، والثانية في مماتها، وقبل أن تغادر مدام كوري الحياة الفانية إلى جوار الحق انصرفت للأبحاث الكيميائية متناغمة مع عشق زوجها للكيمياء، مقدمة نموذجاً آخر لنساء لا ينمحين من الذاكرة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك